بعد التحولات السياسية في سوريا، تبرز الصين كلاعب دولي يسعى لإعادة صياغة علاقته مع الحكومة الحالية، حفاظًا على العلاقات الدبلوماسية والمصالح الاقتصادية التي كانت قائمة قبل التغييرات. بعد شهر من التحولات، بادرت الصين بفتح صفحة جديدة مع سوريا، وأرسلت وفدًا برئاسة سفير الصين بدمشق، شي هونغ وي، الذي التقى بالرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع. لم تذكر الرئاسة السورية تفاصيل عن الاجتماع الذي عقد في شباط الماضي والمواضيع التي نوقشت فيه.
تكررت زيارات السفير الصيني، شي هونغ وي، إلى دمشق، وفي آب الحالي التقى وزير الخارجية والمغتربين السوري، أسعد الشيباني، لبحث المستجدات الإقليمية والدولية والعلاقات الثنائية وسبل تعزيزها. هذه الزيارات أعادت إحياء ملف العلاقات السورية-الصينية، الذي استمر خلال سنوات الحرب عبر زيارات رسمية ومواقف داعمة في المحافل الدولية، باستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لصالح النظام السابق. اليوم، تكتسب هذه العلاقات بعدًا جديدًا في ظل التغيير السياسي وانفتاح الحكومة السورية الحالية على شركاء جدد.
ملف "الإيغور" يشغل الصينيين
الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش، قال إن الصين تسعى لبناء علاقات جديدة مع سوريا، لكن هذه العلاقة تواجه تحديات، أهمها ملف المقاتلين الإيغور والقلق الصيني من وجود جماعات في سوريا تهدد أمنها القومي. وأوضح علوش أن هناك رغبة متبادلة بين الصين والحكم الجديد في سوريا لبناء علاقة جيدة، لكنها لا تزال في بدايتها وقد تستغرق وقتًا.
يرى الباحث السياسي نادر الخليل، أن العلاقات السورية-الصينية تشهد تجديدًا بعد سنوات من الدعم الصيني للنظام السوري السابق خلال الثورة السورية. ويعكس لقاء وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، والسفير الصيني، شي هونغ وي، استمرار النهج الصيني في تعميق الشراكة مع سوريا، في إطار جديد بعد التغيرات السياسية الأخيرة في دمشق.
كانت الصين أحد أهم حلفاء نظام الأسد، واستخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لحماية النظام السابق من العقوبات الدولية، وقدمت دعمًا دبلوماسيًا واقتصاديًا محدودًا مقارنة بدور روسيا العسكري. اليوم، تبدو بكين حريصة على إعادة ترتيب أوراقها مع السلطة الجديدة في سوريا، مع الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، بحسب الخليل.
"الحزام والطريق".. مصالح متبادلة
هناك عوامل تدفع الصين لتعزيز علاقاتها مع سوريا، منها المصالح الاقتصادية وإعادة الإعمار، بحسب الباحث السياسي نادر الخليل. سوريا بحاجة ماسة لاستثمارات لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة، والصين لديها قدرات مالية وتقنية في هذا المجال، وتريد ضمان حصة لها في صفقات إعادة الإعمار، خاصة في قطاعات الطاقة والبنية التحتية.
أشار الخليل إلى أن هناك مصالح جيوسياسية لدى الصين التي تسعى لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط لتنفيذ مشروعها "الحزام والطريق"، وتعتبر سوريا موقعًا استراتيجيًا يخدم هذا المشروع. كما تحاول الصين كسب موطئ قدم استراتيجي في منطقة حيوية تنافس فيها الولايات المتحدة وروسيا، لتحقيق التوازن الإقليمي. مع عودة العلاقات السورية-الأمريكية جزئيًا، تريد الصين ضمانات بألا تصبح سوريا تحت النفوذ الغربي بالكامل.
وهذا يعكس موقف الصين تجاه الغرب، فهي ترفض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول، فضلًا عن امتلاكها أسبابًا وملفات داخلية خاصة بها لا تريد استخدامها ضدها، وهو ما يتوافق مع خطاب السلطة الجديدة في دمشق حول فرض سيادتها ورفض التدخل الخارجي في شؤونها.
بالمقابل، تحدث الخليل عن مصالح سوريا في إعادة رسم العلاقة مع الصين، والتي تتجلى بمحاولة الحصول على دعم مالي واستثماري لإعادة الإعمار، وتعزيز الشرعية الدولية عبر التحالف مع قوة عظمى مثل الصين، وتنويع التحالفات لتجنب الاعتماد الكلي على روسيا أو الغرب.
من وجهة نظر الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش، فإن العلاقة مع الصين مهمة بالنسبة لسوريا على مستويات متعددة، منها الدور المحتمل للصين في إعادة إعمار سوريا، وأيضًا ضرورة أن تكون هناك علاقة جيدة مع الصين لأنها دولة عضو في مجلس الأمن الدولي وتمتلك حق النقض (الفيتو)، وهذا مهم بالنسبة لسوريا.
ماذا عن الموقف الأمريكي
تتجه الأنظار نحو موقف أمريكا من تجدد العلاقات السورية-الصينية، بعد الدعم الذي قدمته لسوريا منذ سقوط النظام السابق ورفع العقوبات الأمريكية عنها.
يعتقد الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش، أن الولايات المتحدة الأمريكية لا ترغب بأن يكون للصين حضور قوي في سوريا، وهذا سيكون أحد عوامل الضغط على الحكم الجديد في سوريا بما يتعلق بتشكيل علاقته مع الصين، لكن هناك هوامش تستطيع سوريا أن تتحرك فيها ببناء علاقة لا تضغط على المصالح الأمريكية في سوريا والمنطقة.
ونوه علوش إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تفرض قيودًا على علاقات سوريا سواء مع الصين أو حتى مع روسيا، لأن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وحتى تجاه آسيا الوسطى مصممة من أجل مواجهة المشروع الصيني" الحزام والطريق".
بالمقابل، يرى الباحث السياسي نادر الخليل، أن عودة العلاقات السورية-الأمريكية جزئيًا قد تخلق توترًا خفيًا في تحالفات دمشق، لكن من غير المرجح أن تؤثر بشكل كبير على الشراكة مع الصين، لأن:
- الصين لا تتنافس عسكريًا مع الولايات المتحدة في سوريا، بل تركز على الجانب الاقتصادي.
- سوريا تحتاج إلى تعددية التحالفات لضمان عدم الوقوع تحت سيطرة طرف واحد.
- بكين وواشنطن قد تتفقان على تقسيم النفوذ في سوريا، إذ تركز أمريكا على الملف الأمني (مكافحة الإرهاب)، بينما تركز الصين على الاقتصاد.
"الحزام والطريق" مبادرة صينية قامت على أنقاض طريق الحرير القديم، وتهدف إلى ربط الصين بالعالم عبر استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتية على طول "طريق الحرير" الذي يربطها بالقارة الأوروبية، ليكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية.
وكانت هناك مباحثات جادة سابقة بين الرئيس المخلوع، بشار الأسد، ونظيره الصيني، شي جين بينغ، للانضمام إلى مشروع "الحزام والطريق".
مستقبل العلاقات
حول مستقبل العلاقات السورية-الصينية، على المستوى السياسي، يتوقع الباحث السياسي نادر الخليل، أن تستمر الصين بدعم الموقف السوري في المحافل الدولية، خاصة في مجلس الأمن. وقد تشهد العلاقات تنسيقًا أكبر في الملفات الإقليمية، مثل القضية الفلسطينية والموقف من إسرائيل، بحسب الخليل.
ويرجح الخليل على المستوى الاقتصادي توقيع اتفاقيات استثمارية في قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات، وقد تشهد سوريا زيادة في المساعدات الصينية غير المشروطة "مقارنة بالمساعدات الغربية المرتبطة بشروط سياسية".