الأحد, 2 نوفمبر 2025 05:54 PM

تغير المناخ يهدد العراق: الحضارة في خطر الاندثار

تغير المناخ يهدد العراق: الحضارة في خطر الاندثار

يواجه العراق اليوم تهديدًا وجوديًا يطال ذاكرته الحضارية العريقة، وذلك بسبب التغيرات المناخية المتسارعة. فالجفاف وتراجع منسوب نهري دجلة والفرات، بالإضافة إلى العواصف الرملية وارتفاع نسبة الملوحة، تتسبب في تدمير المواقع الأثرية الهامة مثل أور وبابل.

التصحر يزحف بثبات على مهد الحضارات، مهددًا بطمر معالم تاريخية يعود عمرها إلى آلاف السنين، وذلك في ظل غياب خطط وطنية فعالة لإنقاذ هذا الإرث التاريخي.

في أرض شهدت بزوغ فجر التاريخ وارتفعت على ترابها أولى الحضارات البشرية، يواجه العراق اليوم أزمة وجودية تهدد ذاكرته الثقافية والتراثية. بلاد ما بين النهرين، التي قدمت للعالم الكتابة والزراعة والمدن الأولى، تقف على أعتاب اندثار جديد، ليس بسبب الحروب هذه المرة، بل بسبب التغيرات المناخية القاسية التي تنحت آثارها على المعالم الأثرية.

بين التصدعات التي أصابت الأرض وتراجع منسوب الأنهار والزحف المتزايد للرمال، تتلاشى شواهد التاريخ واحدة تلو الأخرى، وكأنها تستسلم لصمت الطبيعة بعد أن نجت لقرون من صخب الحروب والفتن البشرية والإهمال الإداري.

وفقًا لتحقيق نشرته وكالة «رويترز»، تحولت الأراضي العراقية في السنوات الأخيرة، خاصة في المناطق الجنوبية، إلى مساحات جافة تآكلها التصحر وارتفعت فيها نسب الملوحة بشكل غير مسبوق. كما تراجع منسوب نهري دجلة والفرات، وازدادت العواصف الرملية التي تخفي تحتها طبقات من التاريخ الممتد لآلاف السنين. ومع كل عاصفة جديدة، تُدفن أجزاء من الذاكرة المادية لبلاد «مهد الحضارات».

دق مسؤولون عراقيون ناقوس الخطر لإنقاذ مواقع تعتبر من أقدم مدن العالم، بعدما بدأت رياح التغير المناخي تفتك بمكوناتها المعمارية. ففي مدينة أور، مهد النبي إبراهيم، بدأت الكثبان الرملية بالتآكل حول الجهة الشمالية من الزقورة الشهيرة، وهي معبد هرمي ضخم شُيّد قبل أكثر من أربعة آلاف عام للإله القمري «نانا».

يقول العالم في دائرة الآثار في محافظة ذي قار، عبدالله نصرالله، إن «الرياح المترافقة مع الكثبان الرملية تؤدي إلى تآكل أجزاء من البناء»، مشيرًا إلى أن «الطبقة الثالثة من الزقورة تضررت مسبقًا بفعل المناخ، وها هو التآكل يصل اليوم إلى الطبقة الثانية».

يُذكر أن المعبد الذي أدرجته «اليونسكو» في قائمة التراث العالمي، يعد من أبرز المعالم التي تقدم نظرة ثاقبة على الممارسات الدينية والطقوس المقدسة في الإمبراطورية السومرية. وفي موقع ليس ببعيد عن المعبد، تتآكل مدافن المقبرة الملكية في أور، التي اكتشفها عالم الآثار البريطاني ليونارد وولي في عشرينيات القرن الماضي.

يوضح المفتش في دائرة الآثار، كاظم حسون، أن الرواسب الملحية ظهرت بسبب الاحتباس الحراري وتغير المناخ، ما أدى إلى تدمير أجزاء مهمة من المقبرة. وأضاف حسون محذرًا: «في نهاية المطاف، ستؤدي هذه الرواسب إلى الانهيار الكامل للطوب الطيني الذي تتكون منه هذه المقبرة».

يواجه العراق ارتفاعًا في درجات الحرارة وجفافًا شديدًا أدى إلى زيادة مستويات الملوحة في جنوب البلاد، حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات عند اقترابهما من الخليج.

الأمر لا يقتصر على مدينة أور وحدها، فمدينة بابل، العاصمة الأسطورية للإمبراطوريات القديمة، تواجه المصير نفسه. يؤكد مدير عام دائرة الآثار في وزارة الثقافة والسياحة العراقية، منتصر الحسناوي، أن المواقع الأثرية في بابل القديمة معرضة للخطر، في ظل تحديات صعبة جراء نقص التمويل. وأضاف أن مستويات الملوحة المرتفعة تضعف المواد الطينية التي بُنيت منها المعابد والقصور القديمة.

يلفت الحسناوي إلى أن أعمال الترميم التي أُجريت في العقود الماضية كانت في أحيان كثيرة غير ملائمة، ما جعل البنى القديمة أكثر هشاشة أمام التغير المناخي.

يحذر المدير العام من أن تفاقم الملوحة في المياه الجوفية والسطحية قد يقود إلى دمار مدن كاملة ما تزال مدفونة تحت الأرض، في إشارة إلى مواقع أثرية لم تُكتشف بعد في سهول جنوب العراق.

ما يواجهه العراق اليوم ليس مجرد حدث مناخي أو أزمة بيئية عابرة، بل تحول بيئي شامل يهدد الوجود المادي لذاكرة الإنسانية. فبلاد الرافدين، التي كانت ذات يوم مهد الزراعة والأنهار، أصبحت اليوم واحدة من أكثر خمس دول تضررًا في العالم من آثار تغير المناخ، وفق تقارير الأمم المتحدة.

كشفت دراسات ميدانية سابقة أن العواصف الرملية التي تجتاح العراق ازدادت وتيرتها خلال العقد الأخير بشكل لافت، إذ شهد عام 2022 وحده أكثر من عشر عواصف كبيرة غطت مناطق الجنوب بطبقات كثيفة من الغبار. وعلى سبيل المثال، في موقع «أم العقارب» السومري، يروي عالم الآثار عقيل المنصراوي أن الرمال «بدأت تزحف منذ عشر سنوات لتغطي أجزاء واسعة من الموقع»، محذرًا من أن «80 إلى 90 في المئة من المواقع الأثرية في الجنوب قد تختفي تحت الرمال خلال العقد المقبل».

يُجمع علماء الآثار على أن العاملين الرئيسيين في تآكل المواقع الأثرية هما العواصف الرملية والملوحة العالية. فالجفاف المستمر وتراجع الغطاء النباتي يجعلان التربة أكثر هشاشة، ما يسمح للرياح بحمل كميات أكبر من الرمال التي تغزو المواقع القديمة وتطمرها تدريجيًا. أما ارتفاع الملوحة، فيُسبّب تآكلاً بطيئاً للّبن الطيني والرسوم السومرية التي ما تزال تزيّن جدران المعابد.

يشير المنصراوي إلى أن كثافة العواصف الرملية بدأت في عكس سنوات من العمل للكشف عن المعابد المصنوعة من الطين والقطع الأثرية التي لا تُقدّر بثمن. ورغم جهود علماء الآثار في جرف الرمال، إلا أن كمياتها تفوق قدرتهم على التعامل معها.

يرزح العراق تحت وطأة مزيج من الأزمات المعقدة. إلى جانب المناخ، أدت عقود من الحروب والعقوبات إلى تدمير أجزاء كبيرة من تراثه الثقافي، بينما تعاني الإدارات المحلية من نقص في التمويل والكوادر المتخصصة لصيانة المواقع الأثرية. كما أن مشاريع التشجير أو «الأحزمة الخضراء» التي طُرحت للحد من التصحر لا تزال محدودة الجدوى في ظل ندرة المياه.

أمام التحدي المناخي المتفاقم، يعتبر العلماء في دائرة الآثار أن «المواقع الأثرية أكثر هشاشة من غيرها لأنها تقع في مناطق مكشوفة وجافة»، ما يعني أن «المعركة ضد المناخ تحتاج إلى خطط وطنية عاجلة، لأن كل تأخير يعني خسارة جزء آخر من الذاكرة».

العراق الذي قدم للعالم أول شريعة مدونة في التاريخ عبر قانون حمورابي بين عامي 1750 و1755 قبل الميلاد، وأول مدن تحمل هياكل اجتماعية واقتصادية وسياسية معقدة مثل أوروك وأور، وأول أسلوب في التنظيم الاجتماعي من خلال أنظمة الحكم والقوانين، يجد نفسه اليوم في مواجهة حرب جديدة، لكن هذه المرة في وجه غضب الطبيعة. والتغير المناخي لا يحمل تداعيات على الزراعة والمياه والحياة اليومية فحسب، بل يهدد أساس الهوية التاريخية للبلاد.

في ظل استمرار الجفاف والزحف الرملي، قد تستيقظ الأجيال المقبلة لتجد أن صروح حضارة عمرها سبعة آلاف عام قد ابتلعها الغبار. ومع كل طبقة رمل جديدة تتكون فوقها، تُدفن صفحة أخرى من تاريخ الإنسانية، وكأن الأرض ذاتها قررت معاقبة الإنسان على ما يقترفه بحقها عبر محو إرثه الثقافي.

مشاركة المقال: