الجمعة, 14 نوفمبر 2025 10:58 PM

من فوكو إلى وازن: كيف يستخدم النفي كأداة فكرية في "الحياة ليست رواية"

من فوكو إلى وازن: كيف يستخدم النفي كأداة فكرية في "الحياة ليست رواية"

يستكشف هذا المقال العلاقة بين قراءة ميشال فوكو الفلسفية للوحة رينيه ماغريت "هذا ليس غليوناً" وبين بنية النفي التي تقوم عليها رواية عبده وازن "الحياة ليست رواية". تنطلق المقاربة من فكرة أن النفي في العملين ليس رفضاً للواقع أو التمثيل، بل هو ممارسة معرفية تكشف حدود العلاقة بين اللغة والعالم، وبين التجربة والكتابة عنها.

عندما كتب فوكو نصه الشهير عام 1973 "هذا ليس غليوناً" (Ceci n’est pas une pipe)، لم يكن يحلل لوحة فنية فحسب، بل كان يفكك العلاقة بين الصورة والكلمة، بين الدال والمدلول، بين ما يُقال وما يُرى. فالعبارة المرافقة لصورة الغليون عند ماغريت ليست مفارقة ساخرة أو تلاعباً من فنان سوريالي، بل هي تمرين على النفي كوعي فلسفي. فالصورة تظهر غليوناً، لكن اللغة تنفيه. وهذا النفي لا يلغي الموضوع، بل يكشف أن ما أمامنا ليس الغليون ذاته، بل تمثيله، أي خداع الواقع بوسائطه.

من هذا المنظور، يمكن قراءة رواية عبده وازن "الحياة ليست رواية" (عن منشورات المتوسط- 2025) كامتداد أدبي لذلك الوعي الفوكوي. فالرواية تنفي التطابق بين الحياة وتمثيلها السردي، وتطرح سؤالاً جوهرياً: هل يمكن للحياة أن تروى كما هي؟ أم أن كل كتابة هي نفي للحياة بقدر ما هي محاولة لالتقاطها؟ يقدم وازن في عنوانه إعلاناً تفكيكياً شبيهاً بعبارة ماغريت، فالرواية عن الحياة تبدأ بإنكارها، لفتح مسافة نقدية بين العيش والكتابة. كلا العملين، لوحة ماغريت ونص وازن، يمارسان نفياً فلسفياً يكشف لا يلغي، ويزعزع العلاقة بين التجربة وتمثيلها.

يكمن سر الرواية في سلاسة سردها، التي تبدو طبيعية وتلقائية، بلا حبكة تقليدية ولا خاتمة مغلقة. فالنص مفتوح ومتداخل، والبوح فيه يشبه الاعترافات التي تتطور في تعريف الشخصية وطباعها ومحيطها. إنها رواية السهل الممتنع. غير أن الأحداث فيها لا تخرج عن الأقدار المرسومة للشخصيات الثلاث التي تتحرك في دروب بيروت، بماضيها وحاضرها وأمكنتها ومقاهيها وذاكرة حروبها. بيروت التي تنفتح نوافذها على ثقافات العالم.

يقدم وازن بطله بلا اسم، معرفاً نفسه بعبارة «أنا قارئ» ليجعل من القراءة موهبة ومهنة وطقساً وهوية بديلة. هذه العبارة تختزل رؤية فوكو في "الكلمات والأشياء" (1966)، حيث يرى الإنسان الحديث "أثراً لغوياً". فالقارئ عند وازن يعيش في النصوص أكثر مما يعيش في الواقع؛ يقرأ ليقاوم هشاشة الوجود. وهذا ما يجعل الرواية تمارس نوعاً من أركيولوجيا الذات اللغوية. فقد جعل وازن "القارئ" محركاً للسرد، لكأنه شخص محذوف من الحياة العامة، بسبب الحب الناقص الذي لم يتح له أن يكتمل. غير أن النصوص التي تمنحه هويته تصبح سجنه أيضاً. وهنا يستعيد وازن المفهوم الفوكوي للمعرفة كسلطة تمارس فعلها على من يظن أنه يملكها.

تتمحور الرواية حول مثلث عاطفي يجمع القارئ بجوسلين وجوزف، في حب غير متكافئ يعيد صدى شخصيات دوستويفسكي. جوسلين الفرنسية اللبنانية العائدة إلى بيروت بعد الحرب، تقع في قلب هذا المثلث بوصفها مرآة للفقد والاغتراب. القارئ يحبها بصمت، وجوزف يفوز بها دون أن يبادلها الشغف ذاته. خلف هذه العلاقات تتجلى بيروت بذاكرتها المثقلة بالحرب والانقسامات، وخطوط التماس والانفجارات والحنين والخطف والقنص. إنها مدينة تكتب أكثر مما تعاش. وبيروت وازن نص متعدّد الأصوات والطبقات، يتكوّن من تداخل خطابات: الحب، العزلة، الفقد، والسياسة، في فضاء لغوي واحد.

ينسج عبده وازن هذه العلاقات المتقاطعة وصراعاتها الخفية بلغة رائقة مشبعة بالعاطفة والحنين والتساؤل، لتغدو الرواية مختبراً لمشاعر ثلاثية تكشف الحب وانكسار الذات أمام الآخر. ومن خلالها تتشابك طبقات السرد بين استحضار مآسي الحرب الأهلية وذكريات الماضي، وإيحاءات من روايات عالمية تشكّل خلفية فكرية وجمالية للنص. فالرواية التي تقول إن "الحياة ليست رواية"، هي في ذاتها رواية عن الحياة. وهذا التناقض الظاهري هو لب اللعبة الفكرية: حيث يصبح شرط الحضور هو الغياب، والنفي لا يهدم المعنى بل يؤسسه من جديد.

مشاركة المقال: