يحيى دبوق – تشهد الساحة الداخلية الإسرائيلية تسارعاً في الأحداث، بالتزامن مع طلب العفو غير المسبوق الذي تقدم به رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، إلى الرئيس إسحاق هرتسوغ، بشأن التهم الموجهة إليه، دون إرفاقه بأي اعتراف بالذنب. هذا الطلب لا يعتبر مجرد إجراء قانوني، خاصةً وأنه لا يستند إلى اعتراف بالتهم أو حتى إلى حكم قضائي، بل هو رسالة سياسية واضحة مفادها أن نتنياهو يواجه ضائقة ويرغب في مخرج من المحاكمة، بحجة أنه "ضروري ولا غنى عنه للدولة".
المبرر الرسمي للعفو، كما ورد في مذكرة محاميه، هو أن رئيس الحكومة "لا يستطيع تكريس الوقت اللازم للمحاكمة بسبب التزاماته الوطنية"، وأن بقاءه في السلطة شرط لضمان الأمن القومي، واستمرار المفاوضات الدبلوماسية، وحتى لـ"إنقاذ إسرائيل من الفوضى". هنا تكمن المفارقة الكبرى: الشخص الذي يحاكم بتهم فساد ورشى، بما في ذلك استغلال منصبه لتبادل المنافع مع رجال أعمال، يدعي الآن أن غيابه عن الحكم قد يفقد إسرائيل بوصلتها.
على الرغم من أن طلب نتنياهو للعفو يشير إلى ضائقة في مساره القضائي، وخوف من أن تنتهي محاكمته بإدانة تنهي حياته السياسية، وربما تدخله السجن، إلا أن هذه الجزئية لا تشغل بال الإسرائيليين حالياً. الجدال الرئيسي يدور حول كون الطلب سابقة خطيرة تقوض مبدأ أساسياً – وإن كان نسبياً – في "دولة" تدعي سيادة القانون: وهو العفو، وفقاً للعرف والقانون، الذي يمنح فقط بعد إدانة نهائية، أي حين تأخذ المحاكمة مجراها ويكتمل مسارها. الاستثناء الوحيد من ذلك كان في قضية "خط 300" عام 1986، حين منح الرئيس حاييم هرتسوغ، والد الرئيس الحالي، عفواً مبكراً لكبار مسؤولي "الشاباك" إثر اعترافهم بقتل محتجزين فلسطينيين بدم بارد بعد استسلامهم؛ وهو ما تم يومها ضمن صفقة سياسية هدفها تجنيب الدولة فضيحة تهدد "صورتها الديموقراطية"، وفي ظل وجود اعتراف صريح بالذنب وتخلي المعفو عنهم عن مناصبهم. أما اليوم، فلا شيء مما تقدم، بل تبريرات ترفع المصلحة الشخصية إلى مرتبة مصلحة الدولة؛ علماً أن حادثة "الخط 300"، التي كانت تعد يوماً استثناءً مدمراً لصورة تل أبيب، باتت تمارس يومياً في إسرائيل الحالية دون اكتراث، لا من جانب المؤسسات، ولا الرأي العام.
انطلاقاً من هذا التناقض الصارخ، يصف خبراء قانونيون طلب نتنياهو بأنه "ابتزاز مغلف بخطاب عفو"؛ إذ إن الرسالة الضمنية فيه واضحة: "إذا لم تنقذوني، فستدفع الدولة ثمناً باهظاً"، وذلك في صورة اضطراب أمني، وفراغ سياسي، وشرخ اجتماعي أوسع. ويزداد المشهد تعقيداً هنا مع دخول عامل خارجي حاسم، متمثل بالرئيس الأميركي دونالد ترامب. فما يتسرب من محيط نتنياهو، وما كتبه محللون إسرائيليون، يوحي بأن طلب العفو لم ينبع فقط من حسابات داخلية، بل جاء مدفوعاً برسالة مباشرة من ترامب إلى هرتسوغ، يدعوه فيها صراحةً إلى منح نتنياهو العفو. ويفهم ما تقدم، في سياق الرؤية الجيوسياسية لترامب، الذي يرى في نتنياهو شريكاً استراتيجياً لا بديل منه في منطقة يعتقد بأنها تشهد تحولاً جوهرياً، خاصة في ملفات إيران، والتطبيع مع السعودية، ومستقبل القضية الفلسطينية، والمصلحة الأميركية بشكل عام، ومصلحة ترامب بشكل خاص.
لكن حتى في حال وافق هرتسوغ على النظر في الطلب – وهو أمر غير مؤكد -، فإن السيناريو المتوقع لا يخلو من مقايضات سياسية صارمة. فالمقربون من الرئيس يشيرون إلى أن أي عفو محتمل سيكون مشروطاً: إما بإقرار جزئي بالذنب في إحدى القضايا (مثل قضية تلقي الرشى في "الملف 1000")، أو بتخلي نتنياهو عن جزء من سياساته التشريعية المناهضة للقضاء، أو حتى بالموافقة على خريطة طريق سياسية تؤدي إلى عزل اليمين المتطرف. لكن رئيس الحكومة، الذي يعتاش على خطاب "الاضطهاد السياسي"، وعلى حاجة "إسرائيل الدولة" إلى بقائه في الحكم، لن يسهل عليه أن يدفع أي ثمن من هذا النوع، من دون أن يتلقى تداعيات سيئة سياسياً ووجودياً.
هكذا، يزداد الواقع الإسرائيلي تعقيداً، ليس بسبب الحروب التي يخوضها هذا الكيان في الخارج والداخل على السواء – حيث لم يحسم أي منها -، بل على خلفية العجز المتزايد عن إدارة الخلافات الداخلية. فالانقسام لم يعد مجرد خلاف سياسي عابر، بل أضحى شرخاً وجودياً يهدد القدرة على التوافق حتى على القواعد الأساسية لمنظومة الحكم والقضاء. ومن هنا، فإن طلب نتنياهو العفو ليس حدثاً عابراً يناقش في أروقة المحاكم أو يعلق عليه إعلامياً، بل هو محطة فارقة، سيتحدد من بعدها ليس مصير نتنياهو وحده، بل ملامح النظام السياسي الإسرائيلي برمته، لسنوات مقبلة.
أما خارجياً، وعلى نقيض الانطباع الأول، فإن أزمة كهذه لا تضعف نتنياهو وائتلافه أو تدفعهما إلى التريث في ساحات المواجهة العسكرية والأمنية، سواء داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أو خارجها، بل قد تكون سبباً للتوثب الدائم نحو مزيد من التصعيد الخارجي، الذي يراد منه إثبات "ضرورة" البقاء في السلطة. وهنا تكمن الخطورة الحقيقية، خصوصاً أن تجربة العامين الماضيين أثبتت أن التصعيد يدار ليس من منطلق الأمن القومي فقط، بل أيضاً استناداً إلى حسابات البقاء السياسي لـ"الزعيم الضروري" الذي لا غنى عنه.