الإثنين, 16 يونيو 2025 09:04 AM

سوريا: قرارات الإفراج عن متهمين بجرائم حرب تثير غضب الضحايا وتعيق العدالة الانتقالية

سوريا: قرارات الإفراج عن متهمين بجرائم حرب تثير غضب الضحايا وتعيق العدالة الانتقالية

حسن إبراهيم | عمر علاء الدين أشعلت تصريحات عضو اللجنة العليا للحفاظ على السلم الأهلي في سوريا، حسن صوفان، الغضب في الشارع السوري، وحرّكت المخاوف من تقويض مسار المحاسبة والعدالة الانتقالية، وزادت الاحتقان في أوساط السوريين، بعد تأكيد صوفان أن المتهم بتنفيذ جرائم حرب بحق المدنيين، “فادي صقر”، مُنح “الأمان” من قبل القيادة السورية بدلًا من التوقيف.

لا يقتصر الأمر على فادي أحمد، المعروف باسم “فادي صقر”، وهو قائد في “الدفاع الوطني” السوري، الرديف لقوات نظام الأسد المخلوع، والمتهم بالمسؤولية عن مجزرة “التضامن” (وقعت في 16 من نيسان 2013، بحي التضامن في دمشق، وأسفرت عن إعدام 41 شخصًا ودفنهم في مقبرة جماعية)، والذي تحول إلى “عراب تسويات” لإخراج موقوفين من سجون الحكومة الجديدة، فقد سبقته شخصيات أوغلت بالدم السوري وكانت أدوات بارزة في ماكينة القتل لدى نظام الأسد، ولا تزال بعيدة عن المحاكمات بعد مرور أكثر من ستة أشهر على سقوط النظام.

تصريحات صوفان جاءت بعد يوم من الإفراج عن عشرات الضباط في قوات النظام السابق، قال عنهم صوفان إنهم “ضباط عاملون” منذ عام 2021، وسلّموا أنفسهم طوعًا عند الحدود العراقية، مضيفًا أن من تم إطلاق سراحهم “لم تتلطخ أيديهم بالدماء”، وأُفرج عنهم لعدم وجود مبرر لبقائهم بالسجن، ونظرًا إلى ضرورات السلم الأهلي في مناطق الساحل بعد توترات استثنائية شهدتها.

رغم حديث صوفان بأن الإجراءات ليست بديلًا عن العدالة الانتقالية، وأن الإفراج عن هؤلاء الضباط هو جزء من إجراءات السلم الأهلي التي تساعد على تهدئة التوتر المجتمعي، فإن ناجين وذوي ضحايا اعتبروا أن السلم الأهلي لا يكون على حساب حقوقهم وجراحهم التي لم تندمل، بينما اعتبر حقوقيون وقانونيون أن البلاد لا تسير على سكة العدالة، وأن هذه الخطوات لا تستند إلى أرضية قانونية، وتؤسس لنهج الانتقام والثأر وتمهّد لجرائم أخرى في سبيل انتزاع الحقوق.

في هذا الملف، تسلط عنب بلدي الضوء على حالة الغضب من “إعطاء الأمان” لمجرمي حرب وتأخير مسار العدالة، وتنقل صوت الناجين وذوي الضحايا، وتناقش مع قانونيين وخبراء تأثير الإفراجات عن متورطين بدم السوريين على السلم الأهلي والمجتمع وعلاقته مع الحكومة، والأرضية القانونية لـ”منح الأمان” ومآلاته.

إجراءات “تزيد الطين بلّة”

قال عضو لجنة السلم الأهلي حسن صوفان، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع المتحدث باسم وزارة الداخلية، نور الدين البابا، الذي أقيم في دمشق في 10 من حزيران وحضرته عنب بلدي، إن الضباط المفرج عنهم خضعوا لتحقيقات ولم تثبت ضدهم أي تهم بارتكاب جرائم حرب، وإن بقاءهم في السجن لا يحقق مصلحة وطنية وليس له مشروعية قانونية.

وأكد أن “العدالة الانتقالية لا تعني محاسبة كل من خدم النظام السابق، والمحاسبة هي لكبار المجرمين الذين نفذوا جرائم وانتهاكات جسيمة”، معتبرًا أن هذه الإجراءات ليست بديلًا عن العدالة الانتقالية التي بدأت بالفعل، وهي مهمة اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية التي شكّلت بمرسوم رئاسي، موضحًا أن الإفراج عن هؤلاء الضباط هو جزء من إجراءات السلم الأهلي التي تساعد على تهدئة التوتر المجتمعي.

ولفت صوفان إلى أن وجود شخصيات، على غرار القيادي السابق في “الدفاع الوطني” فادي صقر ضمن هذا المسار، له دور في تفكيك العقد وحل المشكلات ومواجهة المخاطر التي تتعرض لها سوريا.

وقال، “نحن نتفهم الألم والغضب الذي تشعر به عائلات الشهداء، لكننا في مرحلة السلم الأهلي مضطرون لاتخاذ قرارات لتأمين استقرار نسبي للمرحلة المقبلة”.

بعد ساعات من المؤتمر المنعقد في 10 من حزيران الحالي، قال وزير الإعلام السوري، حمزة المصطفى، إن الضباط والعناصر المفرج عنهم سلموا أنفسهم طوعًا للدولة، مضيفًا أن مسار العدالة الانتقالية بدأ وبانتظار أن تتبلور طروحات اللجنة المستقلة.

وذكر المصطفى أن ما جرى ليس حكمًا نهائيًا للعدالة الانتقالية، وأن الدولة السورية تعي الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون لنيل حريتهم.

وقفة أمام القصر العدلي في حلب دعمًا لتعزيز العدالة الانتقالية كأساس لبناء دولة القانون – 10 حزيران 2025 (معن جزماتي/ فيس بوك)
وقفة أمام القصر العدلي في حلب دعمًا لتعزيز العدالة الانتقالية كأساس لبناء دولة القانون – 10 حزيران 2025 (معن جزماتي/ فيس بوك)

“صقر”: أنا مجرد قيادي

في المقابل، نفى فادي صقر تورطه في مجزرة “التضامن”، قائلًا إنه جرى تعيينه قائدًا لـ”ميلشيا الدفاع الوطني” بعد المجزرة، وذكر في تصريح لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، أنه لم يحصل على أي عفو من الحكومة، وأبدى استعداده للخضوع للقضاء.

وتعرف ميلشيا “الدفاع الوطني” بأنها قوات مسلحة رديفة لجيش الأسد المخلوع، كانت تضم مقاتلين محليين، وشاركت في عمليات اقتحام المدن والقرى.

وقال صقر للصحيفة، “كانت الدولة (السلطات الجديدة) واضحة معي منذ البداية، لو كان لدى وزارة الداخلية أي دليل ضدي، لما كنت أعمل معهم اليوم”.

وأبدى صقر استعداده للخضوع للقضاء، وفق الصحيفة، قائلًا، “سأخضع نفسي لأي قرار قضائي، وفقًا للإجراءات القانونية السليمة”.

واعتبر أن خلفيته، ليس فقط كـ”علوي”، بل كقائد ميليشيا تابعة للنظام، منحته المصداقية لإقناع مؤيدي النظام السابق بعدم التخلي عن الحكومة السورية الجديدة، بحسب ما نقلت عنه “نيويورك تايمز”.

لكن يبقى السؤال المحوري، بحسب ما قاله صقر للصحيفة هو، “هل سيقبلهم جمهور الثورة شركاء في الوطن؟”، مضيفًا أن “اسم فادي صقر هو اختبار لمدى إمكانية التعايش بين طرفي الصراع”.

شغل فادي صقر قيادة “الدفاع الوطني” في التضامن ثم في دمشق، وفق “مؤسسة الذاكرة السورية”، وتزامنت قيادة صقر لـ”الدفاع الوطني” في التضامن مع ارتكاب مجزرة “التضامن”، وكان ضمن القادة المنفذين للمجزرة، حيث تولى قيادة الميليشيا في عام 2012، وحدثت مجزرة “التضامن” في 2013.

مجزرة “التضامن” كشف عنها تحقيق لصحيفة “الجارديان” في نيسان 2022، ورد فيه أن قوات النظام السوري ارتكبت مجزرة في حي التضامن بدمشق، في 16 من نيسان 2013، أسفرت عن مقتل 41 شخصًا ودفنهم في مقبرة جماعية.

وكان صقر مديرًا في “المؤسسة الاستهلاكية بدمشق” بداية الثورة السورية عام 2011، وفق موقع “من هم“.

وترك عمله وانضم إلى “اللجان الشعبية” ومن ثم إلى “الدفاع الوطني”.

تسلّم قائد قطاع التضامن في “الدفاع الوطني” ثم عيّن قائدًا للمنطقة الشمالية لـ”الدفاع الوطني”، ونائبًا لقائد مركز دمشق لـ”الدفاع الوطني”، ثم رئيسًا لمراكز دمشق، وفق “أرشيف الثورة السورية”، ولم يتسنَّ لعنب بلدي العثور على التواريخ الدقيقة لتدرجه في هذه المناصب.

وينسب إليه “نجاح” عدة تسويات ومصالحات في دمشق وريفها، كانت تجري بعد حصار أو قصف ومجازر تنفذها قوات النظام السوري.

سلم أهلي وعدالة انتقالية

لا تزال الضبابية حاضرة خلال الحديث السوري الرسمي عن السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، إذ قال الرئيس السوري بالمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، في شباط الماضي، إن الحكومة تلاحق كبار الضباط في نظام الأسد، ولن يكون هناك أي عفو، مضيفًا أن هناك خيطًا رفيعًا بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، متوعدًا بملاحقة كل من أجرم بحق الشعب السوري، وخاصة “الرؤوس الكبيرة”.

حسن صوفان في تصريحاته، اعتبر أن استقرار مسار السلم الأهلي هو “المقدّم في حقيقة الأمر حتى على مسار العدالة الانتقالية”، مشددًا على أن غياب الحد الأدنى من السلم الأهلي يجعل تحقيق العدالة الانتقالية مستحيلًا.

ما تحدث به صوفان لا يستند إلى مهام لجنة السلم الأهلي، التي تشكلت وفق قرار صادر من الرئيس السوري، أحمد الشرع، في 9 من آذار الماضي، وكانت مؤلفة من حسن صوفان، والدكتور أنس عيروط، والدكتور خالد الأحمد، إثر توترات أمنية في الساحل السوري.

اللجنة مكلفة بثلاث مهام رئيسة هي: التواصل المباشر مع الأهالي في الساحل السوري للاستماع إليهم، وتقديم الدعم اللازم للأهالي في الساحل بما يضمن حماية أمنهم واستقرارهم، وتعزيز الوحدة الوطنية في هذه المرحلة الحساسة.

السلم الأهلي

حالة من الاستقرار والتعايش السلمي داخل المجتمع، ورفض جميع أشكال العنف والتقاتل، سواء كان ذلك من خلال الدعوة إليه أو التحريض عليه أو تبريره.

ويهدف السلم الأهلي إلى تعزيز ثقافة الحوار والتفاهم بين مختلف مكونات المجتمع، واحترام حقوق الإنسان، وسيادة القانون، والمشاركة السياسية والاقتصادية لجميع الأفراد دون تمييز.

العدالة الانتقالية

نظام وإجراءات تهدف لبذل كل ما يلزم في المجتمعات التي تحاول إعادة بناء نفسها من جديد والانتقال من تاريخ عنيف يتسم بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ارتُكِبَت في سياق ممارسة القمع أو في سياق نزاع مسلح أو غير ذلك، والاعتراف بالانتهاكات ومنع تكرارها، وتلبية مطالب العدالة واستعادة نسيج المجتمعات المحلية الاجتماعي، وبناء سلام مستدام.

وتهدف العدالة الانتقالية إلى الاعتراف بضحايا تجاوزات الماضي على أنهم أصحاب حقوق، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون، وبالتالي، تسعى العدالة الانتقالية إلى المساهمة في المصالحة ومنع الانتهاكات الجديدة.

ويقع على عاتق الدول الالتزام بتوفير سبل انتصاف فعالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وتلبية حقوقهم في الحقيقة والعدالة والجبر.

وقفة في ساحة الأمويين للمطالبة بعدالة انتقالية حقيقية – 12 حزيران 2025 (رابطة عائلات من أجل الحرية/ فيس بوك)
وقفة في ساحة الأمويين للمطالبة بعدالة انتقالية حقيقية – 12 حزيران 2025 (رابطة عائلات من أجل الحرية/ فيس بوك)

ناجون وذوو ضحايا: لا تقتلونا مرتين

كانت “إدارة العمليات العسكرية” التي أشرفت على معركة “ردع العدوان” وأدت إلى سقوط نظام بشار الأسد، أطلقت حملات لملاحقة فلول النظام السابق في عدة مناطق، وسبقها افتتاح مراكز “تسوية” لعناصر وضباط النظام في مختلف المحافظات، لتبدأ بعدها عمليات ملاحقة من لم يجرِ تسوية ويسلم سلاحه.

وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، قال خلال مقابلة سابقة، إن تسوية أوضاع عناصر نظام الأسد المخلوع لا تلغي عملية المحاسبة القانونية اللاحقة، وهدف التسوية ضبط الأوضاع، وعدم السماح بالفوضى، وتثبيت الوضع الحالي ريثما يتم التعاطي مع هؤلاء الأشخاص عن طريق السلطات المختصة، ومن عليه قضايا جنائية أو تعذيب يجب أن تتم محاسبتهم عن طريق المؤسسات القضائية.

حتى الآن لم يصدر أي حكم قضائي يخص محاسبة قادة النظام السابق ممن تم إلقاء القبض عليهم أو أجروا تسويات، ومن أبرز الشخصيات التي أجرت تسوية، القائد السابق لـ”الحرس الجمهوري” طلال مخلوف، في وقت يخضع فيه لعقوبات من الاتحاد الأوروبي نتيجة الجرائم التي ارتكبها أو شارك في ارتكابها بحق المدنيين، ولعقوبات بريطانية منذ 2015، ولعقوبات أمريكية منذ 2017.

نقابات وروابط لعائلات وذوي ضحايا ومفقودين استنكروا الإفراج عن المتهمين بارتكاب جرائم بحق السوريين، كما رصدت عنب بلدي تسع دعوات لوقفات احتجاجية رفضًا لتعويم “مجرمي الحرب” وحملت مطالب بالمحاسبة “الفعلية دون مواربة”، وعدالة انتقالية حقيقية فـ”لا مصالحة قبل محاسبة، ولا سلام قبل كشف الحقيقة، ولا استقرار قبل إنصاف المظلومين”.

من بين الكيانات الداعية لهذه الوقفات الاحتجاجية، على سبيل المثال، نقابة المحامين بفرع حمص، والتي اعتبرت أن قرار لجنة السلم الأهلي بالعفو عن “فادي صقر” غير قانوني، وأن إطلاق سراح الضباط العسكريين يشكل توغلًا على اختصاص الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، ويخالف أبسط المبادئ القانونية، إذ يجب أن يصدر قرار الإدانة أو البراءة من السلطة القضائية.

وقالت النقابة، إن منح “الأمان” أو العفو غير المشروط لبعض الأشخاص، دون محاكمات عادلة وشفافة، يُشكّل انتهاكًا فاضحًا لمبادئ العدالة، ويقوّض ثقة المجتمع السوري في المؤسسات الانتقالية.

“إساءة” للضحايا وذويهم

مؤسس “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، دياب سرّية، اعتبر أن إعطاء الأمان لمتورطين بارتكاب جرائم حرب في سوريا، ليس من حق أي شخص أو كيان سواء من لجنة السلم الأهلي أو من رئيس الجمهورية، إذ لا يمكنهم منح عفو عن جرائم حرب، فهو ليس من صلاحيتهم ولا من حقهم لا قانونيًا ولا شرعيًا.

وعن لعب المتورطين ومجرمي الحرب دورًا إيجابيًا في “تحرير العاصمة” كما هو متداول، أو في السلم الأهلي، قال سرّية، إن هذا الدور من الواجب توضيحه أمام السوريين، ومهما كان لا يعني أنه “عفا الله عما مضى ومسح ماضي المجرمين المليء بالدماء”.

سرّية، وهو معتقل سابق، اعتبر في حديثه لعنب بلدي أن ما يحصل معيب ومسيء للضحايا وذويهم وللناجين ولعذاباتهم، لأن الأهالي سيرون أن الحكومة غير مهتمة بتحصيل حقوقهم، ما يحوّل البلد إلى غابة دون قوانين، ويدفع الأشخاص لأخذ الحق بأيديهم.

زعزعة لا تعزيز للسلم الأهلي

مديرة قسم التوثيق في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، نور الخطيب، قالت لعنب بلدي، إن السلم الأهلي لا يبنى على إنكار العدالة، بل على تحقيقها، وإن منح ما يسمى بـ”الأمان” لأشخاص يواجهون اتهامات موثقة بارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، تحت مبررات مثل “دورهم الإيجابي” أو “المساهمة في حقن الدماء”، يُهدد بتكريس ثقافة الإفلات من العقاب، ويقوض أي مسار جاد نحو العدالة الانتقالية.

وأضافت الخطيب أن المرحلة الانتقالية في سوريا معقدة ومحملة بتحديات أمنية ومجتمعية، وأن أي مقاربة مسؤولة يجب أن تراعي حساسية السياق، لكن هذا لا يعني شرعنة التسويات السياسية أو الأمنية على حساب العدالة وحقوق الضحايا.

إن استخدام مصطلحات مثل “المصالحة” و”حقن الدماء” لتبرير الإفلات من المحاسبة، قد يُسهم فعليًا في زعزعة السلم الأهلي لا تعزيزه، لأنه يكرّس شعور الضحايا بأن أصواتهم غير مسموعة، وأن الألم الذي عاشوه قابل للتجاوز لمصلحة توازنات مؤقتة.

نور الخطيب

مديرة قسم التوثيق في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”

 

واعتبرت الخطيب أن ربط العدالة الانتقالية فقط بمحاسبة من يصنفون بأنهم “كبار المجرمين” يمثل اختزالًا خطيرًا لهذا المفهوم، الذي يقوم على محاور متكاملة تشمل المساءلة، والاعتراف بالضحايا، وجبر الضرر، والحق في المعرفة، وضمانات عدم التكرار، مضيفة أن تغييب هذه المبادئ يسهم في تعزيز الهشاشة بدلًا من بناء الثقة المجتمعية.

وترى الصحفية المختصة في مجال حقوق الإنسان جيهان الأحمد، أن تصريحات صوفان أحرجت السلطة القضائية والنيابة العامة وهمّشتها، رغم قوله إن قوانين الدولة تمثل مرجعية للجنة السلم الأهلي، معتبرة أن من الضروري وجود خبير قانوني مؤازر برفقة هذه اللجان، حتى لا تقع بمثل هذه الإحراجات، وتزيد الطين بلّة.

وقالت جيهان الأحمد، لعنب بلدي، إنها لمست مخاوف من الأهالي في بعض مساحات مشتركة من منظمات المجتمع المدني من أن تتحول المحاسبة القانونية إلى حقوق فردية، وما تحدث به صوفان أعطى رسالة سلبية لذوي الضحايا والناجين بأن حقوقهم مهدورة، وبالتالي يفتح الباب باتجاه استيفاء الحق بالذات.

وقفة في دمشق لعائلات سورية من أجل المطالبة بالعدالة ومحاسبة المجرمين وكشف الحقيقة عن مصير المفقودين – 26 كانون الثاني 2025 (رابطة عائلات من أجل الحرية)
وقفة في دمشق لعائلات سورية من أجل المطالبة بالعدالة ومحاسبة المجرمين وكشف الحقيقة عن مصير المفقودين – 26 كانون الثاني 2025 (رابطة عائلات من أجل الحرية)

لا اختصاص قانوني.. تداخل في الصلاحيات

في 17 من أيار الماضي، أصدر الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، المرسومين رقم “19” و”20″ لعام 2025، القاضيين بتشكيل “الهيئة الوطنية للمفقودين” و”الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”.

وتتولى “هيئة المفقودين” مهمة البحث والكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسرًا، إضافة إلى توثيق الحالات، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية، وتقديم الدعم القانوني والإنساني لعائلات المفقودين.

بينما تعنى “هيئة العدالة الانتقالية” بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام السابق، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية.

بعد أسبوع من المرسوم، أكد رئيس هيئة العدالة الانتقالية، عبد الباسط عبد اللطيف، أن العدالة في سوريا “لن تكون انتقامية”، بل قائمة على كشف الحقيقة، والمساءلة، والمحاسبة، ومنع الإفلات من العقاب، وترسيخ سيادة القانون، مشددًا على أن هذه الهيئة ستكون منصة فاعلة لإنصاف الضحايا، وتكريمهم، وتخليد ذكراهم، وجبر الضرر، وصولًا إلى مصالحة وطنية شاملة، تحفظ كرامة السوريين جميعًا.

وتعهد عبد اللطيف بـ”التزام كامل بالعمل الجاد والمثابر لتنفيذ هذا التكليف، تحقيقًا لتطلعات الشعب السوري بجميع مكوناته”، وذلك عبر ما يلي:

  • كشف الحقيقة بشأن الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد.
  • مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات بالتنسيق مع الجهات المعنية.
  • جبر الضرر الذي لحق بالضحايا.
  • ترسيخ مبادئ عدم التكرار، وتعزيز المصالحة الوطنية.

لقي تشكيل “هيئة العدالة” ترحيبًا دوليًا ومحليًا، مع انتقادات حقوقية منها تحذير منظمة “هيومن رايتس ووتش” من أن الصلاحية المحدودة لهيئة العدالة الانتقالية تقوّض مصداقيتها وتقصي العديد من الضحايا، بينما لا يزال السوريون ينتظرون الجديد منها بعد أن أعلن عبد اللطيف أن خطة العمل المذكورة مدتها 30 يومًا.

العفو ليس من صلاحيات “السلم الأهلي”

لا يعتقد الباحث الحقوقي في مركز الحوار السوري نورس العبد الله، أن من حق لجنة السلم الأهلي منح العفو الذي يمنع الملاحقة أو العفو الجزئي، لأنها لا تملك اختصاصًا قانونيًا رسميًا، مؤكدًا أنها ليست “هيئة عدالة انتقالية ذات صلاحيات استثنائية”، موضحًا أن ما تحدثت عنه اللجنة ليس منحها العفو عن صقر أو غيره، وإنما من فعل ذلك هي قيادة العمليات العسكرية مقابل التعاون السابق أو الخدمات الحساسة حاليًا.

ويرى العبد الله، في حديث إلى عنب بلدي، أن بعض تصريحات صوفان “غير موفقة”، وكان يمكن أن تصدر لاحقًا من “هيئة العدالة الانتقالية” صاحبة الاختصاص في تتبع ملفات المتورطين وإحالتها أو لا إلى الدوائر القضائية المتخصصة، فهي صاحبة الاختصاص الأصيل في إدانة أو إعلان براءة أو عدم مسؤولية الأفراد.

وذكّر العبد الله بمرسوم تشكيل لجنة السلم الأهلي ومهامها التي تركز على التواصل وأعمال تعزيز الوحدة ومواجهة خطاب الكراهية والإشكالات اليومية للسكان أو أي مخاطر، مشيرًا إلى أن المرسوم لا يمنح اللجنة صلاحيات ذات طبيعة قضائية أو ذات صلة بملف العدالة مباشرة.

وبالنظر إلى المراسيم الصادرة بتشكيل هيئتي العدالة الانتقالية والمفقودين، يرى الباحث في “مركز الحوار السوري”، أنها مراسيم موجزة جدًا وتفتح الباب أمام تبعثر ملف العدالة الانتقالية بين الهيئات، معتبرًا أن تداخل صلاحيات لجنة السلم الأهلي في ملف العدالة مؤشر على ذلك.

وعن قانونية ما قامت به لجنة السلم الأهلي، قال المحامي والحقوقي السوري عارف الشعال، لعنب بلدي، إن التوصية بإطلاق سراح موقوفين وإخلاء سبيلهم والعفو عنهم ليست من صلاحية لجنة السلم الأهلي، وليست من صلاحية وزارة الداخلية كما أشار إليها حسن صوفان، بل هذا الأمر من صلاحية السلطة القضائية فقط.

وترى مديرة قسم التوثيق في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، نور الخطيب، من الناحية القانونية، أن أي قرارات تمنح لأشخاص متورطين في انتهاكات خطيرة، سواء كانت على شكل “تسوية” أو “أمان”، لا تسقط حق الضحايا أو ذويهم في اللجوء إلى القضاء، سواء داخل سوريا أو عبر الآليات القضائية الدولية، لا سيما في حال ارتكاب أفعال ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب، وهي بطبيعتها لا تسقط بالتقادم.

تريث وحذر أم بداية جديدة

يقترح المحامي عارف الشعال مسارات قانونية لتحقيق السلم الأهلي دون المساس بحقوق الضحايا، أبرزها التريث والحذر في منح العفو عن المشتبه بهم، وعدم عرقلة أي تحقيق قضائي بجرائم يشتبه بارتكابها.

ولعدم حدوث تضارب بين لجنة السلم الأهلي وهيئة العدالة الانتقالية قانونيًا، يرى الشعال أن على لجنة السلم الأهلي، “التقيد بالصلاحيات الممنوحة لها بموجب صك مرسوم تشكيلها”، ولها في سبيل ذلك أن تتواصل مع الأجهزة التنفيذية في الدولة وتقترح التوصيات لها، وتطلب ما يخدم أهدافها عدا التدخل بأعمال القضاء.

وريثما يتشكل المجلس التشريعي، يقترح الشعال على لجنة السلم الأهلي “التقيد بالنظام القانوني للدولة والاستعانة بخبراء بالقانون يواكبون أعمالهم كافة”.

من جهته، يعتقد الباحث نورس العبد الله، أن البداية الصحيحة تكمن بالتوقف وإطلاق مسار تشاوري جدي تقوده السلطة والوزارات المعنية والهيئات السابقة بشكل منضبط وشامل ومحدد بفترة قصيرة (ثلاثة أشهر كمثال)، يجيب عن كثير من التساؤلات ويحسمها وينتج قواعد واضحة قد تلغي ثلاثية اللجان (السلم الأهلي والعدالة الانتقالية والمفقودون) أو تحافظ عليها، لكن مع خطوط واضحة أو تحافظ عليها تحت مظلة هيئة واحدة وتتضمن لجانًا فرعية تعمل بشكل متناغم وبإطار واضح.

يجب أن ندرك بأن مسار ومخاض العدالة طويل، ويحتاج إلى أكبر قدر من حشد الرأي العام والضحايا وذويهم، لذلك لا بد من حسم إجابات بسيطة ورئيسة، كحدود العفو والفرق بينه وبين الصفح والآليات التي تجمع بين مساءلة كبار المجرمين وبين إنصاف الضحايا حتى من المجرمين الآخرين.

نورس العبد الله

باحث في “مركز الحوار السوري”

واعتبر العبد الله أن العدد الهائل للمتورطين وللضحايا لا يعني إغلاق الملف كليًا، لأن ذلك لن يؤسس لاستقرار وسلم أهلي، إنما يعزز الانتقامات الفردية أو الغضب وغياب الثقة بالسلطة والمجتمع من الضحايا وذويهم.

وترى مديرة قسم التوثيق في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، نور الخطيب، أنه في حال أرادت لجنة السلم الأهلي أن تلعب دورًا حقيقيًا، فعليها أن:

  • تعي أن محاولات فرض المصالحة من أعلى، دون إشراك الضحايا أو احترام حقوقهم، لا تبني سلامًا حقيقيًا بل تؤسس لمجتمع هش، يتعايش فوق جراح لم تندمل، وينتظر لحظة الانفجار المقبلة.
  • تتبنى نهجًا شفافًا ينصف الضحايا، وألا تتجاوز حدود دورها التنفيذي أو تمارس صلاحيات لا تخول لها قانونًا، خصوصًا عندما تتعلق بالمساءلة أو العفو أو التسوية.
  • إن أرادت اللجنة أن تكون فاعلًا ذا مصداقية عليها أن تشرك منظمات المجتمع المدني وممثلي الضحايا في جميع مراحل عملها، من رسم السياسات إلى تنفيذها.
  • تعتمد على مشاورات علنية ومفتوحة تضمن الشفافية، وترسخ مبدأ المشاركة المجتمعية كأساس لأي عملية سلم مستدام، إذ لا يوجد سلم حقيقي تقوم به لجنة بشكل منفرد دون المشاركة الفاعلة للمتأثرين والاستفادة من الخبرات التي راكمتها المنظمات المدنية السورية.
وقفة تضامنية أمام القصر العدلي في حلب دعمًا لتعزيز العدالة الانتقالية كأساس لبناء دولة القانون – 10 حزيران 2025 (معن جزماتي/ فيس بوك)
وقفة تضامنية أمام القصر العدلي في حلب دعمًا لتعزيز العدالة الانتقالية كأساس لبناء دولة القانون – 10 حزيران 2025 (معن جزماتي/ فيس بوك)
مشاركة المقال: