نحو عدالة انتقالية سورية مبنية على النتائج
لا يقاس نجاح العدالة الانتقالية بعدد وشكل اللجان أو القوانين المفروضة، بل بمدى قدرتها على تحقيق العدالة للضحايا، وتعزيز الاستقرار المجتمعي على المدى الطويل.
يكاد الجدل حول العدالة الانتقالية في سوريا ينحصر في تعريفها وتصميمها وآلياتها، مثل لجان الحقيقة والمحاكم الخاصة، والإصلاح المؤسسي، والسلم الأهلي وغيرها، لكن هذا التركيز على الشكل وحده غير كافٍ. هل أغفلنا السؤال الجوهري: ماذا عن النتائج؟ فالآليات، مهما كانت مصممة بعناية، هي مجرد أدوات، وقيمتها الحقيقية تكمن فيما تحققه على أرض الواقع.
التعلم من تجارب الأمم الأخرى هو حجر الأساس في الوصول إلى صيغة ملائمة للعدالة الانتقالية في سوريا، والتعلم في جوهره عملية تهدف إلى تغيير السلوك أو تحسين الأداء بناء على الخبرة، وهذا يقودنا إلى مبدأ جوهري في أي عملية تعلم فعالة: تحديد الطريقة الناجحة بناءً على نتائجها. ببساطة، نحن نتعلم حقاً عندما نقيم ما تحقق، لا ما تم فعله أو استخدامه من أدوات.
هذا المبدأ لا يقتصر على التعلم الفردي أو المؤسسي داخل حدود بلد واحد، بل يمتد ليشمل تعلم الأمم والشعوب من بعضها. عندما ننظر إلى تجارب دول أخرى، سواء في التنمية الاقتصادية، الإصلاحات السياسية، الأنظمة التعليمية، أو حتى مقاربات العدالة الانتقالية موضوع هذا المقال، فالمعيار الحقيقي للنجاح ليس في التعريف أو مثالية التصميم أو تفاصيل الآلية المُطبقة، بل في النتائج الملموسة التي حققتها تلك التجارب.
أكثر ما يجمع تجارب العدالة الانتقالية حول العالم هو اختلافها من حيث الشكل والنتيجة، فكل سياق فريد بظروفه وتحدياته. رغم تشابه بعض العناصر واتفاقِ الخبراء على نقاط أساسية، إلا أن نتائج التطبيق كانت متباينة بشكل لافت. فبعض التجارب حققت نجاحات في معالجة الانتهاكات وتعزيز المصالحة وأخفقت في تحقيق عناصر أخرى، وفي بعض الحالات تفاقمت الانقسامات أو حُرم الضحايا من التعويض.
يجب أن ننتقل من مسائل تعريف أو شكل أو تصميم العدالة الانتقالية؟ إلى مواضيع تشمل ماذا حققت تجارب العدالة الانتقالية حول العالم؟ أي الأدوات كانت أكثر نجاحاً أو فشلاً؟ وما الذي يمكننا تعلمه من النتائج الفعلية؟
العدالة الانتقالية، من حيث النتيجة، ليست مجرد مجموعة من الآليات القانونية، بل هي عملية معقدة وطويلة الأمد تهدف إلى تحقيق تحولات مجتمعية عميقة: إعادة بناء الثقة، وتضميد الجراح والتعويض، ومساءلة الجناة، وتعزيز سيادة القانون، ومنع تكرار الانتهاكات. لتحقيق هذه الأهداف، يجب أن نقيّم ما تم إنجازه وما لم يتم، ونتعلم من التجارب الناجحة والفاشلة على حد سواء لضمان أن تكون العدالة الانتقالية في سوريا مبنية على الأدلة والنتائج.
رواندا: التركيز على الكم لا الكيف في رواندا، وبعد الإبادة الجماعية عام 1994، طبقت البلاد نظاماً معقداً للعدالة الانتقالية شمل المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، والنظام القضائي الوطني، ومحاكم “غاكاكا/غاشاشا” المحلية. رغم الجهود الهائلة والنجاح النسبي، واجهت التجربة تحديات كبيرة في تحقيق النتائج المتوقعة، فالمحاكم المحلية كانت محل جدل لاعتمادها على قضاة غير مدربين، واتهمت بالتحيز والفساد وعدم اتباع معايير المحاكمات العادلة. بالنتيجة أدى الضغط في سبيل محاكمة أكبر عدد ممكن من الجناة إلى انخفاض جودة كثير من المحاكمات، مما أثر على مصداقية العملية ككل، كما لم تتمكن الآليات من تحقيق مصالحة حقيقية وعميقة في المجتمع المنقسم بشدة، وظهرت اتهامات بأن بعض الأحكام فاقمت التوتر بدلاً من تخفيفه. كذلك، لم تكن برامج جبر الضرر كافية لمعالجة حجم المعاناة الهائل للضحايا، مما ترك عديد منهم يشعرون بالإهمال وعدم الإنصاف.
أمريكا اللاتينية: الإفلات من العقاب وترسيخ الظلم في عدة دول بأمريكا اللاتينية، اتسمت تجارب العدالة الانتقالية باستخدام قوانين العفو الواسعة للمسؤولين عن الانتهاكات، لضمان انتقال سلمي للسلطة. رغم مساهمتها في الاستقرار السياسي، إلا أنها منعت المساءلة الجنائية لعدد كبير من الجناة، مما أدى إلى إفلاتهم من العقاب وشعور كبير بالظلم لدى الضحايا. كما لم تكن برامج جبر الضرر كافية أو في الوقت المناسب لمعالجة احتياجات الضحايا. أدت قوانين العفو إلى عدم تحقيق العدالة الجنائية لكثير من الجرائم، مما ترك إرثاً من الإفلات من العقاب وقوّض الثقة في سيادة القانون.
نحو عدالة انتقالية مبنية على النتائج إذا لم نقم بتحليل دقيق أو قراءة هذه النتائج بتعمّق، سنكرر الأخطاء نفسها، ونفشل في تكييف الآليات مع السياقات الفريدة لسوريا. التعلم من النجاحات والفشل يتطلب التركيز على ماذا حدث بالفعل؟ بدلاً من كيف كان من المفترض أن يحدث؟ يجب أن نُركز على دراسة النتائج في تجارب العدالة الانتقالية مع التركيز على آليات محاسبة المسؤولين وجبر ضرر الضحايا ومنع التكرار، وهذا يتطلب أن نكون واقعيين ونتجاوز المثاليات النظرية.
يجب أن نسأل أنفسنا باستمرار: هل تحقق هذه الآليات فرقاً حقيقياً في حياة الناس؟ هل تؤدي إلى مجتمع أكثر عدلاً واستقراراً؟ إذا كانت الإجابة لا، فبغض النظر عن مدى مثالية التصميم والشكل، فلن تنجح في تحقيق هدفها. بناء الثقة المجتمعية يعتمد على شعور الناس بالعدالة، والنتائج الملموسة هي وحدها القادرة على استعادة هذه الثقة الهشة بين الدولة والمواطنين. كما أن تحقيق المصالحة الحقيقية يتطلب الاعتراف بالحقيقة والمساءلة، ولا يمكن أن تنجح هذه العملية دون أن يرى الضحايا والعامة أن العدالة قد تحققت فعلاً.
تسهم دراسة النتائج في تجارب منع تكرار الانتهاكات من خلال الإصلاحات المؤسسية وتعزيز حكم القانون في توضيح ما إذا كانت هذه الإصلاحات حقيقية أم مجرد تغييرات شكلية. باختصار، التركيز على النتائج ينقل عملية العدالة الانتقالية من مجرد إجراءات إلى أثر حقيقي ومستدام.
من الضروري تجاوز التركيز على الشكل النظري لتجارب وآليات العدالة الانتقالية والبدء بالنظر إلى نتائجها الفعلية حول العالم، سواء على المدى القصير أو الطويل. لا يقاس نجاح العدالة الانتقالية بعدد وشكل اللجان أو القوانين المفروضة، بل بمدى قدرتها على تحقيق العدالة للضحايا، وتعزيز الاستقرار المجتمعي على المدى الطويل.