بعد غياب دام ثلاثة عشر عامًا، عادت سيدة سورية إلى مصبنة عائلتها العريقة في مدينة حلب، والتي تمتد جذورها إلى أكثر من ثلاثة قرون، وذلك لاسترجاع ذكريات والدها وأجدادها الذين حملوا شعلة هذه الحرفة الأصيلة جيلاً بعد جيل.
في زوايا المصبنة القديمة بأروقتها وقناطرها الحجرية، حيث لا تزال رائحة صابون الغار تعبق في الأرجاء، وقفت السيدة "عائشة زين جبيلي" تتأمل التاريخ الحي الذي عاشته عائلتها لقرون. فـ"صابون الغار الحلبي"، الذي يُعرف عالميًا بجودته وخصائصه الطبيعية، لم يكن مجرد منتج، بل جزءًا من الهوية الحلبية والثقافة السورية العريقة.
يُصنع هذا النوع من الصابون يدويًا من بقايا زيت الزيتون في عصرته الأخيرة وزيت الغار، والماء، وهيدروكسيد الصوديوم، ويُجفف في الهواء الطلق لفترة تمتد لعدة أشهر، مما يمنحه صلابته وفعاليته الفريدة للبشرة والشعر. وقد اشتهرت حلب بهذا النوع من الصابون منذ العصور القديمة، ويعتُبر من أرقى أنواع الصابون الطبيعي في العالم.
اليوم، تعود هذه السيدة بعزم متجدد لإحياء هذا الإرث، مستندة إلى خبرة الأجيال، ومزجها مع التقنيات الحديثة في التعبئة والتسويق. هدفها ليس فقط إعادة تشغيل المصبنة، بل نقل هذه الحرفة إلى الأجيال القادمة، وتعريف العالم مرة أخرى بروعة الصناعة التقليدية الحلبية التي قاومت الزمن والحروب والنسيان.
وعلقت جبيلي في منشور على زيارتها للمصبنة عبر حسابها في "فيسبوك": "كل زاوية فيها ذكرى، وكل حجر فيها فيه نفس من والدي". وأضافت: "لرائحة الغار لازالت تعانق المكان وكأنها تقول لي لازلت هنا انتظرك". وتابعت: "قد تكون المصبنة تعبت ولكنها لم تنتهي اسمها غال وتاريخها عزيز أنا هنا ليس لأتذكر فقط ولكن لأجعل اسم "مصبنة نذير" يضيء ويتألق من جديد".
قبل الحرب، كانت حلب تضم نحو 100-120 مصنع. لكن بعد الدمار والنزوح، بقي منها فقط نحو 10-15 منشأة، بعضٌ منها انتقل إلى دمشق أو تركيا مثل غازي عنتاب. ورغم التحديات (تدمير المعامل، نقص الكهرباء، ارتفاع التكاليف، شح المواد الخام)، لا تزال الصناعة قائمة بفضل الجهود المجتمعية والتكاتف بين صانعي الصابون الذين غالبًا ما يشتركون في مساحة إنتاج واحدة.
في 4 ديسمبر 2024، أدرجت اليونسكو "صناعة صابون الغار الحلبي" ضمن قائمة التراث الثقافي اللامادي، تقديرًا لمعرفته التقليدية وارتباطه بالهوية والحياة العائلية في حلب.
فارس الرفاعي - زمان الوصل