في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث، وتتغير المواقف، يجد المرء نفسه أمام سيلٍ من التعليقات والتحليلات التي تغزو وسائل التواصل الاجتماعي. هذه الوسائل، بنهمها المتزايد للكلام والنشر، أصبحت أشبه بموقد لا يشبع، يطلب المزيد باستمرار.
يبدو أن الكثيرين ممن ينشطون على هذه الوسائل لم يلتفتوا إلى التحولات الكبرى التي يشهدها العالم ومنطقتنا، والتي ستؤدي حتمًا إلى تغيير مواقف الشخصيات المؤثرة في السياسة والأدب والفن. فمن الغريب أن نرى شخصًا كان يشغل منصبًا رفيعًا في أيام حكم الأسدين، ويدافع عن النظام بشراسة، ويتهم معارضيه بأنهم "دواعش" ذوو أجندات خارجية، يتحول اليوم إلى مدافع شرس عن الجماعات التي كان يهجوها ويتهمها بالعمالة!
لقد شهدنا خلال السنوات الـ 14 الماضية طيفًا واسعًا من التباينات في المواقف، وهو ما أُطلق عليه اسم "التكويع". وإذا تجاوزنا "تكويع" الشخصيات التافهة، فإننا نصل إلى "التكويع" السياسي الاستراتيجي، الذي مارسته الحكومة الجديدة نفسها. فقد اتهمت هذه الجماعات الجهادية معارضيها بالعمالة لأمريكا وإسرائيل، ليس فقط من خلال تصريحات قادتها، بل ومن خلال التحقيقات التي كان يتعرض لها المعتقلون في سجونها. حتى قيل إن المعتقل الذكي هو الذي يستطيع إقناع المحققين بعدائه للأمريكان وحماسه للجهاد إلى جانب إخوتنا الفلسطينيين والدفاع عن حقوقهم التي اغتصبها شذاذ الآفاق، الصهاينة!
في خضم هذه التحولات التاريخية الكبرى، يصبح ما يسمى "التكويع" مأثرة تدل على ذكاء "المكوع" وحنكته وقدرته على حسن التصرف في مواجهة القوى العاتية المتحكمة بمصائر الشعوب في هذه البلاد المنكوبة. وكلما تمكن من إسكات الأصوات التي كانت تعادي هذه القوى العاتية، وطي الشعارات والهتافات التي تم تداولها في أيام "الثورة" على نطاق واسع، وأبرزها "ع القدس رايحين/شهداء بالملايين"، أصبح مقبولًا لدى العدوين السابقين "أمريكا وإسرائيل".
تحضرني هنا فكرة مهمة، وهي أن هذا النوع من "التكويع" الكاريكاتيري يناسب المجتمعات المحكومة بأنظمة دكتاتورية صلبة. ففي أيام الحصار على نظام صدام حسين قبل عام 2003، كانت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية تطالب العراق بالسماح بتفتيش منشآته العسكرية. وعندما كان صدام يرفض الطلب، تنطلق مظاهرات شعبية حاشدة تؤيده لشجاعته وحرصه على السيادة الوطنية العراقية. وبعد أيام قليلة فقط، يوافق صدام حسين على السماح للمنظمة بالتفتيش، فتنطلق المظاهرات نفسها، وربما شارك فيها الأشخاص أنفسهم، لتؤيد حكمة القائد وحنكته السياسية، فهو بهذه الموافقة يوجه رسالة قوية للمجتمع الدولي، ملخصها أن العراق لا يمتلك أي نوع من هذه الأسلحة التي تزعم الولايات المتحدة كذبًا أنها موجودة لديه.
في البلاد الديمقراطية، يقول الإنسان رأيه بصراحة ووضوح، ويستحيل أن يغير رأيه بسبب الخوف من غضب السلطات. فهل سيأتي يوم نكون مثلهم؟