في شهر شباط من هذا العام، شهدت مدينة منبج تفجيراً مأساوياً أزهق أرواح سوريين أبرياء، لم يقترفوا ذنباً سوى وجودهم في مكان الحادث. سارعت الدولة حينها بإصدار بيان تعزية وصفتهم فيه بـ"الشهداء"، مؤكدة أن ما حدث هو "عمل إرهابي جبان". البيان اختُتم بالترحم الصريح على أرواح الضحايا، في خطاب وطني عكس، ظاهرياً على الأقل، احتضاناً رمزياً لألم السوريين، دون تمييز واضح في الموت أو الحزن.
ولكن، في يوم الأحد الموافق 22 حزيران، وقع تفجير دموي في كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق، مخلفاً ضحايا سوريين أبرياء أيضاً، لا يختلفون في دمهم أو وجعهم عن ضحايا منبج. إلا أن بيان الدولة هذه المرة جاء بصياغة مختلفة، وكأنه صادر عن جهة أخرى. لم يُطلق على الضحايا وصف "شهداء"، بل اكتُفي بتسميتهم "ضحايا". كما لم يُوصَف التفجير بـ"الإرهابي"، بل بـ"الإجرامي"، في تراجع ملحوظ في اللهجة. وحتى كلمة الرحمة، التي عادة ما تُهدى مجاناً لكل ميت، غابت، لتحل محلها "التعازي لأسر الضحايا".
قد يرى البعض أن هذه الفروقات لفظية، وأن السياسة لا تُقاس بالمفردات. ولكن في وطنٍ مزقته خطابات التفرقة لعقود، تصبح للكلمات وزن الرصاص، ولغيابها صوت مخيف لا يمكن تجاهله. فالفارق بين "شهيد" و"ضحية" ليس مجرد فارق لغوي، بل هو فارق ثقافي واجتماعي، وربما أخلاقي أيضاً. إنه الفرق بين أن يُنظر إليك كمن مات في سبيل الوطن، أو كمن مات في الهامش.
الأمر المدهش هو أن كلا الحادثين وقعا في نفس العام، بفارق أشهر قليلة، وفي ظل مناخ أمني متقارب. كلا التفجيرين استهدفا مدنيين، ولكن خطاب الدولة تبدّل، وتبدّلت معه درجة التكريم والاعتراف. لا يوجد هنا أي مبرر لاختلاف السياق، ولا يوجد تفسير في الزمان أو التفاصيل، إلا إذا كان الاختلاف يكمن في هوية الضحايا، وليس في طبيعة الجريمة.
الأكثر إيلاماً هو أن تنزلق الدولة – التي يفترض بها أن تكون مظلة لكل مواطنيها – إلى خطاب يقسم الموتى، في وقت يجب أن تكون فيه أكثر حرصاً على تماسك مجتمع هش ومثقل بالانقسامات. فإذا كان الموت، كما يقول الشاعر التركي ناظم حكمت، "عادلاً"، أفلا يجدر بالحياة، أو على الأقل بمن يدير شؤونها، أن تسعى للعدل؟
"إذا كان الموت عادلاً، فيجب أن تكون الحياة عادلة"، كتب الشاعر التركي، ونحن نكررها اليوم ونحن نقرأ بياناً لا يرى الضحايا على قدم المساواة، ولا يرى في رحيلهم سبباً مشتركاً للحزن أو التأمل أو الوحدة.
تأمل هذه المفارقة: يُستشهد المواطن هناك، ويُرثى، وتُدان الجريمة بأقسى العبارات، بينما يُجرّد المواطن هنا من صفة الشهادة، ويُسكب عليه صمت بارد، لا ترحم فيه ولا نبرة وجع. أي رسالة تُرسل إلى الناس حين يرون هذا التفاوت؟ هل يُقال لهم: موتكم ليس واحداً، ولا حزننا عليكم متساوٍ؟ أليس في ذلك تهديد لتماسك ما تبقى من خيوط الانتماء والكرامة؟
نحن شعب أنهكه التمييز، والتصنيفات، والفرز القسري حتى في حق الحياة والموت. نطلب اليوم من الدولة ألا تحرم أبناءها من أقل الحقوق: الإنصاف في الكلمة، والمساواة في الوداع الأخير. لا نطلب منها معجزات، ولا عدالة كونية، بل مجرد عدالة لغوية، تساوي بين ضحية وضحية، بين أم ثكلى وأخرى، بين دمعة في الدويلعة ومحردة، ودمعة في منبج وإدلب، وأخرى في القامشلي والبوكمال، وعلى امتداد الجغرافيا السورية.
السوري لا يسأل عن دينه حين يُقتل، ولا يوصي أن يُحتسب في خانة معينة. السوري يسقط، ويحلم في لحظة السقوط أن هناك دولة ستكرّمه بما يليق به كمواطن، لا أن تتفرّق عليه البيانات كما تفرّقت عليه الهويات، واختلفت درجات التشييع والعزاء.
في غياب هذه العدالة، لن يبقى لنا سوى أن نكون – نحن الشعب – أوفياء لفكرة الوطن التي لا تُفرّق بين مسلم ومسيحي، أو بين من ينتمي إلى أي مكوّن من الفسيفساء السوري الجميل، بين شهيد وضحية، بين اسم في بيان وآخر سقط في النسيان.
فلنكن نحن السوريين أوفى لبعضنا مما تريده الحكومات لنا. لنترحم نحن على من يُحرَم من الرحمة، ونعزّي نحن من لا يجد العزاء في الخطابات الرسمية. الرحمة لا تحتاج إلى تفويض من أحد، والتضامن لا يُوزّع على أساس الطائفة.
الله يرحم الجميع، منبج ودمشق، المسلمين والمسيحيين، وكل سوري سقط وهو يحلم بوطن لا يُفرّق بين الناس، حتى في الموت. والعزاء، كل العزاء، لهذا الوطن الذي نبحث عنه جميعاً… ونحلم أن ندركه في القريب العاجل.
د. سلمان ريا (اخبار سوريا الوطن-١)