أكد الخبير في مجال الري، المهندس محمد علي الزين، على الأهمية الاستراتيجية للمياه الجوفية، مشيراً إلى أنها تشكل 98% من إجمالي المياه العذبة غير المتجمدة عالمياً، وتزود نصف سكان العالم بمياه الشرب، وتساهم في نصف الإنتاج العالمي من الغذاء، فضلاً عن كونها مصدراً هاماً لتغذية الأنهار والبحيرات. وأوضح أن كمية المياه الجوفية تفوق بـ 250 مرة كمية المياه الموجودة في جميع الأنهار والبحيرات بالعالم.
وحذر المهندس الزين من التحديات التي تواجه المياه الجوفية، مثل محدوديتها في ظل زيادة الطلب وسوء الإدارة وتدهور النوعية، بالإضافة إلى خطر الجفاف والتغيرات المناخية. ودعا إلى زيادة الاهتمام بإدارة هذا المورد الهام بشكل منصف ومستدام، وتغيير الاعتقاد السائد بأنه معين لا ينضب.
وفيما يخص الوضع في سوريا، أوضح المهندس الزين أن متوسط الموارد المتاحة للاستخدام خلال الفترة من 2001 إلى 2011 كان 16.2 مليار متر مكعب، بينما بلغ متوسط الاستخدامات 17.7 مليار متر مكعب، أي بنسبة 109% من الموارد المتاحة، مما أدى إلى عجز في الموازنة المائية قدره 1.5 مليار متر مكعب. وأشار إلى أنه في عام 2007، بلغ العجز المائي 3.5 مليارات متر مكعب، وتم تعويضه من خلال ضخ كميات كبيرة من المياه الجوفية، مما أدى إلى جفاف آلاف الآبار وانخفاض مناسيب المتبقي منها وتقلص تدفقات الينابيع.
وبين المهندس الزين أن المياه الجوفية في سوريا تؤمن 60% من احتياجات مياه الشرب والاستعمالات المنزلية، وتوفر مياه الري لـ (60-65%) من المساحات الزراعية المروية، وتتواجد على شكل خزانات جوفية على أعماق مختلفة في العديد من المناطق، وتتركز نسبة كبيرة منها بالقرب من سطح الأرض في المناطق ذات الهطل المطري الكبير وبالقرب من الأنهار والبحيرات.
وأشار إلى أنه خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ازداد الاعتماد على المياه الجوفية وتنامت ظاهرة حفر الآبار، وساعد ذلك توفر الحفارات والمضخات القادرة على الضخ من أعماق بعيدة. ووفقاً للإحصائيات، كان عدد الآبار في سوريا عام 2002 نحو 180 ألف بئر، وتبين أن 55% منها مخالفة وغير مرخصة، وكانت تروي مساحة 817.3 ألف هكتار، وهي مساحة تتجاوز قدرة المياه الجوفية المتجددة على تأمين الاحتياجات في ظل الزراعات القائمة وكفاءة الري السائدة.
وأوضح المهندس الزين أن العقدين الأخيرين من القرن الماضي شهدا نهضة زراعية في سوريا، تمثلت في توسع المساحات المروية دون مراعاة الوضع المائي. وارتفع إجمالي المساحات المزروعة عام 2002 إلى نحو 1332.8 ألف هكتار، بعد أن كانت عام 1982 نحو 555.1 ألف هكتار، حيث ارتفعت المساحات المروية بالمياه الجوفية من 259.5 ألف هكتار إلى 817.3 ألف هكتار، في حين ارتفعت المساحات المزروعة والمروية بمصادر مياه سطحية من 295.6 ألف هكتار إلى 515.5 ألف هكتار.
وبناءً على ذلك، وصلت نسبة المساحات المروية بالآبار إلى 61.3% من إجمالي المساحات المزروعة عام 2002، بعد أن كانت النسبة لا تتجاوز 46.7% عام 1982، في حين أن نسبة المياه الجوفية المتجددة لم تكن تزيد وفق أعلى التقديرات عن 33.6% من إجمالي الموارد المائية الكلية المتاحة، مما يدل على وجود خلل في التخطيط وضغط متزايد على المياه الجوفية.
وعن واقع أحواض المياه الجوفية في سوريا، قال المهندس الزين إنها ضحلة ومحدودة ومستنزفة منذ عقود في العديد من المناطق (السلمية، القلمون، الباب، منبج، السويداء، ..)، ليس فقط بسبب الضخ الجائر، وإنما بسبب ضعف التغذية الناجم عن موجات الجفاف المتكررة، مما أدى إلى تعاظم الخلل في الميزان المائي الجوفي بين الموارد والاحتياجات عاماً بعد عام. وأشار إلى أن الحكومات السابقة تنبهت منذ العام 1959 لخطورة استنزاف الأحواض المائية الجوفية وأصدرت العديد من القرارات التي تحضر حفر الآبار نهائياً في عدة مناطق وشددت العقوبات على المخالفين، ورغم أن هذا ساهم في الحد نسبياً من حفر آبار مرخصة، إلا أن الحفر العشوائي للآبار بقي مستمراً.
وأوضح أن تفتت الحيازات الزراعية واستغلال البعض لظروف البلاد خلال سنوات الثورة ساهم في زيادة معدلات الحفر، حيث تبين في آخر إحصاء عام 2021 وجود 57 ألف بئر في محافظة ريف دمشق لوحدها، مما ولد مخاوف من الإفراط بالضخ دون ضوابط وعدم الالتزام بالمقنن المائي المسموح للآبار المرخصة، وذلك في ظل ضعف إمكانيات المتابعة وصعوبة الرصد وغياب تجهيزات القياس، كما ولد مخاوف من اتساع ظاهرة تداول المياه الجوفية كسلعة في بعض المناطق.
وختم المهندس الزين بالتأكيد على أن هذا الوضع الحرج للمياه الجوفية في سوريا وصلنا إليه نتيجة الاستخدام الكثيف للمياه دون تقدير خطورة ذلك على الوضع الاجتماعي والاقتصادي والبيئي، وانعكاس ذلك على الأجيال القادمة، داعياً إلى ضرورة تشكل وعي لدى جميع المواطنين (فلاحين، باحثين، مخططين،..) بأهمية المياه الجوفية وامتلاك القدرة على الإدارة الناجحة لها، والتكيف مع المخزن المتجدد واستثمارها بالشكل الأمثل بما يضمن توفرها بشكل مستدام.