الجمعة, 27 يونيو 2025 12:59 AM

خناصر السورية: من لعنة الموقع الاستراتيجي إلى أمل العودة وإعادة الإعمار

خناصر السورية: من لعنة الموقع الاستراتيجي إلى أمل العودة وإعادة الإعمار

لم يكن حسين عيد الحسين يتوقع العودة إلى بلدته خناصر بعد سنوات النزوح والخوف. يقف اليوم قرب منزله المدمر جنوب البلدة، يتأمل الجدران المتداعية بصمت ويقول: "هذا كان بيتي، والآن هو ركام بسبب طائرات النظام. حلمت به طيلة سنوات النزوح، وعندما عدت وجدته رمادًا".

في عام 2012، بدأ النزوح الجماعي من خناصر تحت القصف العنيف الذي طال كل شيء. كانت البلدة تقع على طريق معامل الدفاع، خط نار مكشوف بين أطراف الصراع. اضطر حسين، كغيره، للهروب مع عائلته نحو الجبال والقرى المجاورة، حيث قضى شهورًا في الصحراء.

يروي حسين لمنصة "تغريبته" قائلاً: "سكنت أربعة أشهر في الخلاء، وتوفي الكثير من أبناء بلدتي في طريق الهرب". ويتحدث عن آلام الفقد: "خناصر دفعت ثمنًا كبيرًا؛ استشهد العشرات من قرانا، وفي رسم النفل وحدها ارتُكبت مجزرة راح ضحيتها أكثر من مئتي شخص، معظمهم من النساء والأطفال".

تقع خناصر جنوب شرق مدينة حلب، وتشكل عقدة استراتيجية تربط بين ريف حلب والبادية السورية ومعامل الدفاع القريبة. كانت نقطة عبور رئيسية للإمدادات العسكرية، ما جعلها هدفًا لقصف النظام السوري وهجمات تنظيم داعش.

شهدت البلدة قصفًا ومعارك متكررة، ومجازر مروعة كمجزرة المزرعة ومجزرة رسم النفل، التي قُتل فيها حوالي 207 مدنيين. كما قُتل العشرات من أبناء خناصر في الهجمات الجوية والتفجيرات العشوائية.

بسبب التصعيد، نزح أكثر من 60 ألف نسمة من سكان خناصر وقراها، وتدمرت البنية التحتية بنسبة 80%.

يستذكر حمود نصّار، أحد العائدين، تفاصيل النزوح القاسية: "كنا خمس عائلات في غرفتين داخل مدرسة مهجورة، نطبخ على النار، نحمل المياه من مسافات بعيدة، والشتاء كان قاسيًا جدًا... كنا محاصرين والخوف لا يفارقنا". ويضيف لمنصة "تغريبته": "أصعب ما عشناه لم يكن الفقر فقط، بل أصوات القصف المستمر، وغياب المكان الآمن، والحياة التي فقدت كل معنى".

رغم ذلك، دفع الحنين الكثيرين للعودة. يقول حسين: "عدت لأن هذه الأرض أمي.. شعرت أن خناصر تعانقني حين وطأتها من جديد"، لكنه صُدم بما رأى: "البلدة مدمرة، والبيوت مهجورة، والشوارع بلا حياة.. منزلي الذي حلمت بالعودة إليه، مهدّم بالكامل".

صدمة ما بعد العودة امتدت إلى غياب الخدمات الأساسية. يوضح حسين: "الكهرباء مقطوعة كليًا، والماء لا يصل، رغم وجود خط مياه قادم من السفيرة. مضخات خط خناصر ما تزال تعمل تقنيًا، لكن هناك نقصًا حادًا في مادة المازوت".

ويتابع بحزن: "أفكر بإعادة بناء منزلي، لكن لا أملك شيئًا.. لا توجد منظمات إنسانية تدعمنا، ولا أي جهة تساعدنا.. ربما أضطر للعودة للسكن في خيمة. مؤلم أن تُهجّر في وطنك مرتين، مرة بالنار، ومرة بالإهمال".

يشرح ياسر الإبراهيم، رئيس المجلس المحلي، الواقع الخدمي للبلدة: "رغم بعض مظاهر الاستقرار، إلا أن نسبة العائدين لا تتجاوز 5%، إذ اقتصر عددهم على نحو 6 آلاف شخص، من أصل ما يقرب من 60 ألف مهجّر"، وأن نسبة الدمار تجاوزت 80%.

ويوضح الإبراهيم أن "الخدمات شبه معدومة.. لا كهرباء، لا مياه، المستوصف غير فعّال، ولا توجد نقاط طبية حقيقية. التعليم عاد بشكل خجول، والمزارعون لا يتلقون أي دعم، والسكان لا تصلهم مساعدات". ويشير إلى أن البلدة تعاني من عمليات سرقة وتشليح.

ويضيف: "نحن على أطراف البادية، في منطقة نائية، وتحتاج البلدة إلى خطة طارئة شاملة لإعادة تأهيل البنية التحتية وتأمين حياة كريمة للناس".

كانت خناصر، لسنوات، قبلة للمتصارعين، وتحولت منازلها إلى خرائط للدمار. دفع أبناؤها ثمن موقعها، وذاقوا مرارة التهجير. لكن رغم كل ما فقدته، لم تفقد صوتها.

عادت بعض العائلات، لا لأنها تملك ما تعود إليه، بل لأنها لم تجد في الغربة وطنًا بديلاً. اليوم، خناصر تقف بين زمنين: زمن الانكسار وزمن الأمل. تحتاج إلى من يعترف بوجعها، ويستثمر في نهوضها.

بين أطلالها، لا تزال تنبض بالحياة أسرٌ لم تترك حلمها، وأطفال يتعلّمون في غرف مهدّمة، وقلوب تنتظر أن يعود الوطن… لا بالسلاح، بل بالعدالة، والإعمار، والكرامة.

يختم حسين حديثه بنبرة يملؤها الرجاء: "أتمنى أن تعود خناصر إلى بهجتها، وأن يُرمم كل بيت مهدّم، وأن يجد الشباب فرصة للعمل… نريد فقط أن نعيش بكرامة.. لا نريد أكثر من بيت فيه ماء وكهرباء وأمان". ويضيف: "أتمنى أن تتحول إلى موئل لكل باحث عن الاستثمار وإعادة الإعمار".

مشاركة المقال: