تشهد عواصم إقليمية ودولية حراكاً نشطاً يهدف إلى إعادة ترتيب خريطة المنطقة وتوازناتها، وذلك في أعقاب التطورات المتسارعة التي بدأت مع طوفان الأقصى. وتتميز هذه التحركات السياسية والدبلوماسية بأن ما يجري في الكواليس يتجاوز بكثير ما يتم الإعلان عنه، مما يؤكد وجود مساعٍ جادة لإنجاز ترتيبات ترسم الخارطة الجيوسياسية الجديدة، انطلاقاً من توازنات القوى المستجدة في المنطقة، وفي ضوء الحرب في غزة، والتوترات الإيرانية الإسرائيلية، والتغييرات في دمشق.
من أبرز الأحداث التي تم تسجيلها مؤخراً: زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى الإمارات العربية المتحدة، وإشادة الرئيس ترامب به، بالإضافة إلى رفع الولايات المتحدة الأمريكية اسم هيئة تحرير الشام من قوائم التنظيمات الإرهابية، والتحرك في الأمم المتحدة لاتخاذ خطوة مماثلة، تمهيداً لزيارة الشرع إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما زار وزير الخارجية البريطانية ديفيد لامي دمشق، في أول زيارة من نوعها منذ 14 عاماً، والتقى بالشرع، معلناً عن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين دمشق ولندن. وأعادت منظمة الاتحاد من أجل المتوسط سورية إلى عضويتها. وفي سياق متصل، قام نتنياهو بزيارة غير روتينية إلى واشنطن، وسط حديث عن ضغوط أمريكية لوقف القتال في غزة، في ظل الضربات التي توجهها المقاومة الفلسطينية لجيش الاحتلال، وهو ما يتعارض مع رغبات نتنياهو وحكومته. وقامت قوات صنعاء بتدمير سفينة بريطانية، مؤكدة استمرار الحصار على الموانئ الإسرائيلية. وتسعى إيران إلى تعزيز قوتها، واستخلاص العبر من المواجهة مع إسرائيل، وتزويد نفسها بأحدث الطائرات ووسائل الدفاع الجوي الصينية والروسية، مع تجميد التعاون مع وكالة الطاقة الذرية. وفي بيروت، أطلق المبعوث الأمريكي توماس باراك تصريحات مخففة حول حزب الله وسلاحه.
تشير قوانين الصراعات والحروب إلى أن الفترات المفصلية والصراعات الكبيرة لا تقاس بنتائجها بعدد الخسائر، ولا تنتهي بخسارة نهائية لطرف، بل تؤدي إلى تفكيك أركان نظام جيوسياسي قائم، وولادة نظام جديد. وفي هذه المواجهات الميدانية والسياسية، كانت النتيجة سجالاً، حيث قاربت حرب غزة على الانتهاء دون تحقيق إسرائيل لأهدافها المعلنة، وفشلت إسرائيل والولايات المتحدة في تحقيق أهدافهما من الصراع مع إيران، وتلقت إسرائيل ضربات موجعة. وعلى الرغم من أن قرارات قمة بريكس ستؤثر على مكانة الدولار الأمريكي، إلا أن أمريكا والكيان الصهيوني لا يزالان يمتلكان الكثير من عوامل القوة والتأثير.
أما التغيير الذي حصل في دمشق، فقد شكل منعطفاً كبيراً في مسارات الصراع وتوازنات القوى في المنطقة، وهو ما يجعل التحركات السياسية والدبلوماسية ومحاولات تظهير الخارطة الجيوسياسية للمنطقة تتمحور بشكل أساسي حول تموضع ومكانة دمشق، وعلى رأسها محاولة الولايات المتحدة الأمريكية لإنجاز اتفاق سلام سوري إسرائيلي، ودخول دمشق في الاتفاق الإبراهيمي، والذي سيكون المفتاح لدخول أطراف عربية أخرى، في التطبيع والاتفاق الإبراهيمي وفي مقدمتها السعودية، بحيث يصبح المحرك لسياسات وتوجهات المنطقة، تمهيداً للدخول مع الصين وروسيا، لتقاسم النفوذ والمكاسب، بما يضمن الهيمنة الأمريكية على منطقة غرب آسيا، التي تعتبر المدخل والبوصلة والمؤشر على صعود وهبوط الإمبراطوريات والدول العظمى عبر التاريخ.
المرحلة الحالية هي مرحلة اتصالات ولقاءات خلف الكواليس، والانتقال إلى المرحلة العلنية، وما تتطلبه من لقاءات وتفاهمات سياسية ودبلوماسية، لن يطول، ومن المتوقع أن لا تتجاوز هذه المرحلة نهاية العام الجاري. هذا المسار مرهون باستمراره بالشكل الذي انتهت إليه التوازنات الناتجة عن الحرب الإيرانية الإسرائيلية، والترتيبات التي تجري لوقف القتال في غزة، والتغيير في دمشق، لكن حساسية المنطقة وكثرة الألغام وعوامل التفجير فيها تجعلها مفتوحة إما على توافق إقليمي ودولي على تقاسم النفوذ والمصالح أو أن رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة لا يزال يتطلب التسخين والانتقال إلى جولة جديدة من الاشتباكات في أكثر من ساحة وجبهة.
(اخبار سوريا الوطن ٢-الكاتب)