الجمعة, 18 يوليو 2025 04:37 PM

من سايكس بيكو إلى طوفان الأقصى: كيف تعيد الأحداث تشكيل الشرق الأوسط؟

من سايكس بيكو إلى طوفان الأقصى: كيف تعيد الأحداث تشكيل الشرق الأوسط؟

ملاك محمد حمود - في أعقاب انهيار الدولة العثمانية، وجد المنتصرون أنفسهم أمام تركة ضخمة، ليقوموا بتقسيمها عبر اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة، بما يخدم مصالحهم الاستعمارية. فما هي هذه الاتفاقية وما علاقتها بالأوضاع الراهنة؟

يبدو أن ورثة السلطنة العثمانية الاستعماريين لم يوفقوا في تقسيم هذا الإرث الكبير عندما وضعوه على طاولة المفاوضات، لينتجوا اتفاقية سايكس بيكو. وبعد 109 أعوام، أدركوا أن هذه الاتفاقية لا تصلح للشرق الأوسط، وأن الوضع الحالي للمنطقة هو نتيجة لشرورها.

هكذا أوحى توم باراك، مبعوث الدولة الأميركية - حليفة بريطانيا - الأخير لسوريا ولبنان، الذي رأى أن تقسيم سايكس بيكو كان بأهداف إمبريالية وليس من أجل السلام، معتبراً أنه خطأ كلف أجيالاً.

اتفاقية سايكس بيكو، التي وُضعت عام 1916 على طاولة الدبلوماسيين جورج بيكو ومارك سايكس، بعد أن سلمتهم كل من فرنسا وبريطانيا "مندوباً سامياً" لمتابعة شؤون الشرق الأدنى، كانت أشبه بفقرة رسم حر على ملامح الشرق الأوسط، يرسم فيها كل طرف خطوطاً تقسم الخارطة على هواه، وتقسم معها مستقبل الشعوب العربية.

بخط واحد على ورقة، أشار سايكس إلى الخريطة قائلاً: "نرسم خطاً من عكا إلى كركوك"، كما يروي المؤرخ جيمس بار. لم يكن الخط سوى بداية خريطة استعمارية جديدة، اتفقت فيها بريطانيا وفرنسا، بإشراف روسيا، على توزيع المشرق العربي كأنه مساحة فارغة للرسم الحر.

في 16 أيار 1916، وقعت كل من بريطانيا وفرنسا، وبالتنسيق مع روسيا القيصرية اتفاق سايكس بيكو السري.

نالت فرنسا غرب سوريا ولبنان وأضنة، فيما وضعت بريطانيا يدها على جنوب العراق ووسطه، من البصرة إلى بغداد، مروراً بحيفا وعكا. أما روسيا، فاختارت لها شمال كردستان والولايات الأرمنية، واحتفظت بحق حماية الأرثوذكس في فلسطين. أما البقية، فقُسمت إلى مناطق نفوذ غير مرئية على الورق ولكنها كانت حاسمة على الأرض.

فلسطين، التي لم تُمنح لأي طرف بشكل مباشر، خُطط لها أن تكون تحت إدارة دولية، قبل أن تتحول إلى أرض موهوبة للحركة الصهيونية لاحقاً. بقي الاتفاق سرياً حتى كشفت روسيا البلشفية عنه عام 1917، فاشتعل الغضب الشعبي، وصدم العرب بالوعود الكاذبة التي قطعتها بريطانيا، بدعم قيام دولة عربية مستقلة مقابل ثورتهم على العثمانيين. فلم يكن اتفاق سايكس بيكو مجرد صفقة، بل كان رسمة خبيثة أُنجزت بأقلام أجنبية فوق خريطة لم تكن ملكهم.

ما بنود اتفاقية سايكس بيكو؟ المادة الأولى: إن فرنسا وبريطانيا العظمى مستعدتان أن تعترفا وتحميا دولة عربية برئاسة رئيس عربي في المنطقتين «أ» (داخلية سوريا) و«ب» (داخلية العراق) المبينة في الخريطة الملحقة بهذا الاتفاق. يكون لفرنسا في منطقة (أ) ولإنكلترا في منطقة (ب) حق الأولوية في المشروعات والقروض المحلية، وتنفرد فرنسا في منطقة (أ) وإنكلترا في منطقة (ب) بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية.

المادة الثانية: يباح لفرنسا في المنطقة الزرقاء (سوريا الساحلية) ولإنكلترا في المنطقة الحمراء (منطقة البصرة) إنشاء ما ترغبان فيه من شكل الحكم مباشرة أو بالوساطة.

المادة الثالثة: تنشأ إدارة دولية في المنطقة السمراء (فلسطين)، يعين شكلها بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة.

المادة الرابعة: تنال إنكلترا ما يلي: 1- ميناءي حيفا وعكا. 2- يضمن مقدار محدود من مياه دجلة والفرات في المنطقة (أ) للمنطقة (ب).

المادة الخامسة: تكون إسكندرونة ميناء حراً لتجارة الإمبراطورية البريطانية. وتباح حرية النقل للبضائع الإنكليزية عن طريق إسكندرونة وسكة الحديد في المنطقة الزرقاء. تكون حيفا ميناء حراً لتجارة فرنسا ومستعمراتها والبلاد الواقعة تحت حمايتها، ويكون نقل البضائع حراً بطريق حيفا وعلى سكة الحديد الإنكليزية في المنطقة السمراء (فلسطين).

المادة السادسة: لا تمد سكة حديد بغداد في المنطقة (أ) إلى ما بعد الموصل جنوباً، ولا إلى المنطقة (ب) إلى ما بعد سامراء شمالاً، إلى أن يتم إنشاء خط حديدي يصل بغداد بحلب ماراً بوادي الفرات، ويكون ذلك بمساعدة الحكومتين.

المادة السابعة: يحق لبريطانيا العظمى أن تنشئ وتدير وتكون المالك الوحيد لخط حديدي يصل حيفا بالمنطقة (ب)، ويكون لها ما عدا ذلك حق دائم بنقل الجنود في أي وقت كان على طول هذا الخط. ويجب أن يكون معلوماً لدى الحكومتين أن هذا الخط يجب أن يسهل اتصال حيفا ببغداد، وأنه إذا حالت دون إنشاء خط الاتصال في المنطقة السمراء مصاعب فنية أو نفقات وافرة لإدارته تجعل إنشاءه متعذراً، فإن الحكومة الفرنسية تسمح بمروره في طريق بربورة – أم قيس- ملقا – إيدار – غسطا – مغاير إلى أن يصل إلى المنطقة (ب).

المادة الثامنة: تبقى تعريفة الجمارك التركية نافذة عشرين سنة في جميع جهات المنطقتين الزرقاء والحمراء في المنطقتين (أ) و(ب)، وما يفرض من رسوم جمركية على البضائع المرسلة يدفع في الميناء ويعطى لإدارة المنطقة المرسلة إليها البضائع.

المادة التاسعة: من المتفق عليه أن الحكومة الفرنسية لا تجري مفاوضة في أي وقت للتنازل عن حقوقها، ولا تعطي ما لها من الحقوق في المنطقة الزرقاء لدولة أخرى سوى للدولة أو لحلف الدول العربية، من دون أن توافق على ذلك مقدماً حكومة جلالة الملك التي تتعهد بمثل ذلك للحكومة الفرنسية في المنطقة الحمراء.

المادة العاشرة: تتفق الحكومتان الإنكليزية والفرنسية، بصفتهما حاميتين للدولة العربية، على أن لا تمتلكا ولا تسمحا لدولة ثالثة أن تمتلك أقطاراً في شبه جزيرة العرب، أو تنشئ قاعدة بحرية على ساحل البحر المتوسط الشرقي.

المادة الحادية عشرة: تستمر المفاوضات مع العرب باسم الحكومتين بالطرق السابقة نفسها لتعيين حدود الدولة أو حلف الدول العربية.

المادة الثانية عشرة: من المتفق عليه ما عدا ذكره أن تنظر الحكومتان في الوسائل اللازمة لمراقبة جلب السلاح إلى البلاد العربية.

هذه الرسمة التي خطها كل من سايكس وبيكو، لم تكن بهذه البراءة بل كانت نتيجة لسم مدسوس في المنطقة، سيجري بدم العرب مع جريان هذه الاتفاقية.

دسّت المخابرات البريطانيّة رَجُلَها توماس إدوارد لورنس الذي اشتهر باسم «لورانس العرب» في قلب المنطقة العربية، وبدأ توماس عمله متخفياً بزيّ العرب ليكون واحداً منهم. وفي مملكة الهاشميين التي كانت تسيطر على منطقة الخليج والعراق، كانت خطوات توماس تجر معها الفتن و الخراب، فكان يمشي بين قبائل مكة والمدينة المنورة ويجيّش النفوس ضد الحكم العثماني.

استطاع توماس أن ينفذ مهماته بعد أن وجد الرجل الأمثل لقيادة جيش عربي، فكان الأمير فيصل ابن الملك حسين الهاشمي رمزاً قاد هذه الثورة المجبولة بخديعة البريطانيين للعرب، بعد أن أوهموهم بوعد الانسحاب الفوري عقب انتهاء المعركة.

و بعد المخطط التخريبي الذي كان يراقبه «سايكس» بشغف منتظراً لحظة الانقلاب، استطاعت الجيوش العربية الإطاحة بالحكم العثماني.

وفي كانون الأول 1917، سيطرت الجيوش العربية على القدس وانهارت الإمبراطورية العثمانية بالكامل، وهنا بدأ سريان السم الحقيقي في المنطقة مع بداية تطبيق فعلي لاتفاقية سايكس بيكو.

وفي 1919، عقد المنتصرون في الحرب مؤتمر باريس، حيث حصلت خريطة الأمير فيصل على غطاء دولي فمُنح الهاشميون مملكة جديدة شرق الأردن مقابل إخلائهم سوريا لمصلحة الفرنسيين تنفيذاً لاتفاق سايكس بيكو.

مع سقوط الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، دخلت المنطقة العربية طورًا جديدًا، لم يُبْقِ من معالم سايكس بيكو سوى خطوط أولية. فبريطانيا، التي أحكمت قبضتها على فلسطين والعراق، ما لبثت أن تخلّت عن تطبيق الاتفاق فعليًا، مفضّلة فرض نظام الانتداب بالتفاهم مع فرنسا، عبر مقررات مؤتمر «سان ريمو» عام 1920.

ذلك الانتقال من التقسيم إلى الوصاية الدولية لم يُنهِ طموحات الهيمنة، بل أعاد صياغتها في أطر قانونية عبر «عصبة الأمم»، التي منحت شرعية لحكم أجنبي مباشر على شعوب المشرق. وهكذا توزعت بلاد الشام والعراق بين نفوذين بريطاني وفرنسي، بينما بقيت اليمن والسعودية خارج هذه المعادلة.

وفي عام 1922، كرّست الجامعة الأممية هذا المشهد بإقرار رسمي لنظام الانتداب، بعد أن تم قمع الثورات المحلية في العراق وسوريا وفلسطين.

هذه الأجواء كانت الركيزة الأساسية أمام الحركة الصهيونية لتبدأ بتنفيذ مشروعها السياسي، مستندة إلى وعد بلفور البريطاني، تمهيدًا لإنشاء كيان استيطاني على أرض فلسطين.

ومع صعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، بدأت بريطانيا في الستينيات والسبعينيات بسحب وجودها تدريجيًا من الخليج، بدءًا بالكويت، مرورًا بعدن ومسقط، وانتهاء بالانسحاب الكامل من الإمارات وقطر والبحرين بحلول 1972.

ورغم تقلبات العقود اللاحقة، بقيت الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو أعقاب الحرب الأولى ثابتة نسبيًا.

بينما كانت الدول الاستعمارية الكبرى تتقاسم منطقة الشرق الأدنى على الورق عبر اتفاقية سايكس بيكو، كانت في الوقت عينه تضع الأسس لمشروع استيطاني طويل الأمد في قلب المنطقة. ففي العام التالي، جاء وعد بلفور (1917) ليُعبّر عن نوايا بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، في تجاهلٍ واضح لتعهداتها السابقة للعرب خلال الثورة ضد العثمانيين. هذا الوعد لم يكن معزولاً عن سياق الاتفاقية، بل كان استكمالاً له، إذ منح أرض فلسطين لليهود على طبق من فضة، ممثلاً الوجه الصهيوني لتقسيم استعماري أكبر.

بعد صدور وعد بلفور، دخلت المنطقة مرحلة جديدة من الاضطراب، إذ تحوّل الوعد إلى مشروع استعماري نفذ مع وقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني عام 1920. بدأت بريطانيا بتهيئة الأرض قانونياً وديموغرافياً لاستقبال موجات الهجرة الصهيونية، وسط مقاومة عربية خجولة، لم تحظَ بالدعم الدولي ولا بوحدة موقف داخلي. في المقابل، بدأت شعوب المنطقة العربية تدرك أن سايكس بيكو ووعد بلفور لم يكونا سوى وجهين لعملة واحدة. هذا الواقع فجّر عدداً من الثورات، أبرزها ثورة 1936 في فلسطين، ولكن القوى الكبرى كانت قد أحكمت قبضتها وجعلت من الكيانات العربية الناشئة كيانات وظيفية، تخدم المصالح الغربية لا العربية.

شكّل «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023 صدمة كبيرة للعدو الصهيوني، وأربك الحسابات الصهيونية والغربية. ولكن سرعان ما حولت «إسرائيل» الحدث إلى فرصة لا تعوّض، فلم تكتفِ بردٍّ عاديّ، بل اختارت أن تستغل الأمور لتنفيذ حرب إبادة على الغزّاويين بغطاء غربي.

فتجاوزت كل الحدود، مطالبة بإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، محاولة تفريغ القطاع ديموغرافيًا عبر دفع السكان نحو سيناء، إعادة تعريف دور السلطة الفلسطينية، والتلويح بخريطة تطبيع جديدة تشمل سوريا ولبنان.

وفي ظل هذه اللهجة الصهيونية، بدأ الخطاب الأميركي يأخذ منحى أكثر وضوحًا حول إعادة تشكيل الشرق الأوسط، حيث جاء تصريح المبعوث الأميركي لسوريا ولبنان إلى توم بارّاك مثيرًا للانتباه، حين طرح فكرة ضمّ لبنان إلى سوريا ضمن تصور جديد للمنطقة.

خطوات واضحة في مسار «شرق أوسط جديد» يسعى إلى تجاوز سايكس بيكو، بروح استعمارية ولكن بأدوات جديدة ناعمة متمثّلة بالأمن والاقتصاد والتحالفات العابرة للسيادة.

مشاركة المقال: