في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها سوريا بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2025، يتردد سؤال ملح: هل سيرتفع العلم الإسرائيلي في قلب دمشق؟
من أبرز هذه التطورات، الاجتماع الذي عُقد في باريس بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين يوم الخميس 24 يوليو/تموز 2025، بوساطة وحضور المبعوث الأمريكي توم باراك. أكد باراك أن المحادثات ركزت على الترتيبات الأمنية في جنوب سوريا وتجنب المزيد من التصعيد.
ذكر تلفزيون سوري أن المحادثات استمرت أربع ساعات، وجمعت وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر. وأفاد موقع أكسيوس بأن وزيرين من إسرائيل وسوريا أجريا أول محادثات رفيعة المستوى منذ 25 عاماً في باريس.
سبق ذلك إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفع العقوبات المفروضة على دمشق خلال جولته الخليجية في مايو/أيار، حيث التقى بالرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع وحثه على التطبيع مع إسرائيل.
بعد سقوط الأسد، انتشرت تقارير عن لقاءات بين مسؤولين إسرائيليين وعناصر في السلطة السورية الجديدة، تزامناً مع غارات إسرائيلية على مواقع عسكرية سورية. كما كشفت مصادر مطلعة لـ"رويترز" عن لقاءات مباشرة بين إسرائيل وسوريا في النصف الأول من عام 2025 لخفض التوترات ومنع اندلاع صراع في المنطقة الحدودية.
في مايو/أيار، وخلال لقائه الرئيس الفرنسي في قصر الإليزيه، صرح الرئيس السوري الانتقالي بوجود مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل عبر وسطاء لتهدئة الأوضاع وعدم خروجها عن السيطرة.
تتداخل قضية التطبيع بين سوريا وإسرائيل مع قضايا جغرافية وتاريخية وسياسية واقتصادية ومواقف شعبية، قد تعرقل أو تدفع باتجاه السلام.
خاضت سوريا ثلاث حروب ضد إسرائيل في إطار المواجهات العسكرية بين دول عربية وإسرائيل، بدءاً من حرب 1948، مروراً بحرب 1967، وصولاً إلى حرب 1973، إضافة إلى اشتباكات متقطعة خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990).
انتهت الحروب بين البلدين باتفاقات هدنة (1949) أو فض اشتباك (1974)، مع احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان منذ عام 1967، وحالة العداء الرسمي التي شملت استضافة الحكومة السورية فصائل فلسطينية مسلحة، وشن إسرائيل غارات على مواقع داخل سوريا، خاصة خلال فترة الصراع السوري الداخلي الذي بدأ عام 2011.
في التسعينيات، ومع مشاركة سوريا في حرب الخليج الثانية، بدت المنطقة على أعتاب مرحلة جديدة ترعى فيها واشنطن اتفاقات سلام بين الأعداء. فوقّعت منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل اتفاق أوسلو، وأبرم الأردن اتفاقاً مشابهاً، وأجريت لقاءات بين مسؤولين إسرائيليين وسوريين للتمهيد لانضمام الرئيس السوري حافظ الأسد إلى قافلة التطبيع، الذي كان معارضاً لاتفاق السلام بين مصر وإسرائيل.
تناولت محادثات السلام السورية الإسرائيلية قضايا أمنية وسياسية واقتصادية، ويُعتقد أنها شملت ما عُرف بـ"وديعة رابين"، وهي مقترحات تعتمد على تعهد شفهي من رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين بالانسحاب الكامل من الجولان مقابل ترتيبات تحفظ أمن إسرائيل. لكن اغتيال رابين عام 1995 أدى إلى انتكاسة كبيرة في المحادثات.
لم تفلح المفاوضات اللاحقة في حل الخلافات المتعلقة بحجم الانسحاب من الجولان والترتيبات الأمنية والسماح بوجود سوريّ على بحيرة طبرية/بحر الجليل.
لم تغير محادثات السلام الإسرائيلية السورية من خطاب حزب البعث الحاكم داخل سوريا تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث ظلت دمشق تروج لنفسها داخلياً على أنها "مناوئة للمشروع الصهيوني"، وازداد زخم ذلك الخطاب في ظل التحالف مع حزب الله الذي خاض حرباً ضد إسرائيل في عام 2006. لكن الموقف الشعبي من حزب الله تعرّض لتحدٍ كبير في عام 2013 مع بداية مشاركة مقاتلي الحزب بجانب القوات الحكومية السورية.
تلك التغيرات التي شهدتها سوريا في سنوات الصراع الداخلي ألقت بظلالها على الموقف الشعبي من الاستقطابات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، حيث لا يوجد اليوم موقف واحد جامع للسوريين فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل، التي تخوض حرباً في غزة عقب هجوم حماس في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ترى رهف الدغلي، أستاذة العلوم السياسية في جامعة لانكستر، أنه يمكن تقسيم المواقف في سوريا حالياً حيال قضية التطبيع إلى ثلاثة معسكرات: الأول يضم من يريدون وضع نهاية للأوضاع المأساوية التي تعيشها سوريا منذ عام 2011، لذا فإنهم قد يقبلون بالسلام مع إسرائيل لمنح البلاد فرصة للتعافي. بينما يعارض الفريق الثاني إبرام النظام الحالي اتفاق سلام مع إسرائيل من دون تخويل شعبي. ويضم المعسكر الثالث المعارض للتطبيع بشكل عام فئات عدة، من بينها قطاع من أبناء الأقليات الذين يخشون من عمليات انتقامية.
أصدر المركز السوري لدراسات الرأي العام (مدى) نتائج استطلاع للرأي أجراه على 2550 سوريا حول قضية التطبيع، جاء فيه أن 46.35 في المئة من العينة المستطلَعة لا يؤيدون توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، مقابل 39.88 في المئة من المؤيدين، بينما قال 13.76 في المئة إنهم غير معنيين أو غير مهتمين.
يرى الدكتور كمال العبدو، عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الشمال في إدلب، أن معارضي التطبيع "هم الأغلبية"، وهو ما يمثل إحدى أبرز العقبات أمام إبرام اتفاق سلام. وتشمل العقبات الرئيسية أيضاً قضية مرتفعات الجولان المحتلة.
تقع مرتفعات الجولان في جنوب غرب سوريا وتبلغ مساحتها حوالي 1,200 كيلومتر، وتمنح من يسيطر عليها موقعاً متميزاً بين سوريا وإسرائيل. احتلت إسرائيل أغلبية مرتفعات الجولان عام 1967، وعام 1974 أبرم الجانبان اتفاقاً لفك الاشتباك. ضمّت إسرائيل مرتفعات الجولان من جانب واحد في عام 1981، ولم يُعترف بهذه الخطوة دولياً، رغم اعتراف إدارة ترامب بها عام 2019. وأنشأت إسرائيل أكثر من 30 مستوطنة في الجولان يعيش فيها نحو 20 ألف مستوطن إسرائيلي.
عقب سقوط نظام الأسد، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن اتفاقية فض الاشتباك قد انهارت وأمر قواته بالتقدم إلى المنطقة العازلة.
يرى إيهود ياري، محلل شؤون الشرق الأوسط في القناة الثانية عشرة الإسرائيلية، أنه لا يوجد أي مسؤول سياسي في إسرائيل مستعد الآن للتخلي عن الجولان. بينما يرى الأكاديمي السوري كمال العبدو أن السلطة الانتقالية الحالية لا تستطيع التنازل عن الأراضي السورية المحتلة.
يعتقد ألكساندر لانغلوي، محلل السياسة الخارجية الأمريكية المختص بشؤون غرب آسيا، أن السلطة الحالية في سوريا لن تقدم على إبرام اتفاق سلام شامل مع إسرائيل في المستقبل القريب، وأن اهتمام الشرع بالتطبيع هو جزء من لعبة دبلوماسية أكبر تهدف إلى الحصول على المساعدة والاعتراف من الغرب.
بينما يستبعد الدكتور كمال العبدو إمكانية التوصل إلى اتفاق تطبيع بين سوريا وإسرائيل في الوقت الحالي، إلا أنه يشير إلى إمكانية أن يتوصل الجانبان إلى "تفاهمات معينة" برعاية إقليمية تناقش ترتيبات حول أمن الحدود والانتشار العسكري، بجانب توفير ضمانات لإسرائيل بعدم الاعتداء عليها. كما يضيف أنه من الممكن أن تشمل الاتفاقات "تأجير الجولان لفترة معينة كما حدث في غور الأردن في اتفاقية وادي عربة".
يقول الصحفي الإسرائيلي إيهود ياري إن هناك قناعة في أواسط الطبقة السياسية والعسكرية في إسرائيل بأنه يمكن التوصل إلى "تفاهم مهم" مع دمشق "ربما لن يكون تطبيعاً شاملاً مثلما هو الحال في الاتفاقيات الإبراهيمية لكن هذا التفاهم يمكن أن يقود إلى ترتيبات حول مصالح مشتركة مثل الأمن والحدود". ويشير ياري إلى إمكانية إبرام اتفاقيات أمنية جديدة بين سوريا وإسرائيل تحل محل اتفاقية فك الارتباط لعام 1974. كما يمكن أن تشمل تلك التفاهمات تطبيعاً بين مكوّنات دينيّة داخل سوريا (مثل طائفة الدروز) وإسرائيل.
شكّل دروز سوريا محور اهتمام خاص من قِبل إسرائيل عقب سقوط نظام بشار الأسد، وهو اهتمام تجلّى في عدة أحداث، أبرزها غارة إسرائيلية استهدفت منطقة قرب القصر الرئاسي في دمشق، عقب اشتباكات ذات طابع طائفي بالقرب من دمشق، وصرّح حينها بنيامين نتنياهو بأنها تمثّل "رسالة إلى النظام السوري مفادها أن إسرائيل ملتزمة بحماية دروز سوريا".
جاء سقوط نظام بشار الأسد في ظل تطورات ضخمة شهدتها منطقة الشرق الأوسط؛ فالحرب الإسرائيلية في غزة تجاوزت القطاع لتصل إلى لبنان الذي شهد مواجهات بين إسرائيل وحزب الله، أبرز حلفاء بشار الأسد. وعقب الخسائر التي تكبدها حزب الله، تقدمت الجماعات المسلحة المعارضة بسرعة كبيرة لتسيطر على المدن السورية واحدة تلو الأخرى وصولاً إلى دمشق. وكانت هيئة تحرير الشام الإسلامية المتشددة – التي كانت مدرجة على قوائم الإرهاب تحت قيادة الشرع – على رأس تلك القوات التي وضعت نهاية لحكم آل الأسد.
بعد الإطاحة بحكم الأسد، أُعلن عن التوصل إلى اتفاق يتم بموجبه حل الفصائل المسلحة ودمجها في القوات الحكومية. أما الشرع، الذي تخلى عن لقب أبو محمد الجولاني، فقد بدأ يغير خطابه ليتخلى عن النبرة الجهادية المتشددة.
ترى الدكتورة رهف الدغلي أن الشرع "غير قادر على فرض التطبيع الكامل" على المقاتلين الإسلاميين، سواء كانوا أجانب أو سوريين، "الذين يتخذون موقفاً راديكالياً داعما للقضية الفلسطينية". وبينما يتفق الدكتور كمال العبدو مع الحديث عن كون المسلحين الإسلاميين مؤيدين بشدة للقضية الفلسطينية، فإنه يشير إلى أن التفاهمات المستقبلية المحتملة قد تشمل محاربة التيارات المتطرفة وإبعاد "الجماعات الراديكالية" عن الحدود مع إسرائيل.
وبعيداً عن الجماعات الموالية للشرع، يرى الصحفي الإسرائيلي إيهود ياري أن هناك الكثير مما يجب على السلطة في سوريا فعله، وقد تم جزء منه بالفعل، فيما يتعلق بالتنسيق لمواجهة حزب الله والفصائل الفلسطينية المسلحة التي كانت تحظى بدعم الأسد، وبعض المحاولات من قبل حماس لتأسيس قاعدة لها . وكان ترامب قد دعا الشرع إلى طرد من وصفهم بـ"الإرهابيين الفلسطينيين".
جاء إعلان الرئيس الأمريكي عن رفع العقوبات المفروضة على سوريا ليثير فرحة عارمة داخل البلد، الذي يعاني اقتصادياً جراء نحو 14 عاماً من الاقتتال الداخلي. ورغم أن ترامب لم يربط بين رفع العقوبات والتطبيع مع إسرائيل إلا أن هناك فريقاً من السوريين قد يرى أن السلام مع إسرائيل سيؤدي بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تحسن الأوضاع الاقتصادية. فبحسب استطلاع الرأي الذي أجراه المركز السوري لدراسات الرأي العام فإن نحو 70 في المئة من العينة المستطلع رأيها يعتقدون أن السلام مع إسرائيل سيؤدي إلى قدوم الاستثمارات العربية والدولية إلى البلاد.
لكن الدكتور كمال العبدو لا يعتقد أن التطبيع مع إسرائيل قد يؤدي بالضرورة إلى الرخاء، مستشهداً بالأوضاع الاقتصادية الصعبة في مصر التي أبرمت اتفاق سلام مع إسرائيل منذ نحو 45 عاماً.
في المقابل يقول الصحفي الإسرائيلي إيهود ياري إن إسرائيل يمكن أن تساعد في حل أزمة الطاقة التي تعاني منها سوريا عبر ضخ الغاز من إسرائيل إلى سوريا ولاحقاً إلى لبنان.
وهكذا، فإنه وبينما يستبعد محللون فرص تطبيع شامل أو قريب بين إسرائيل وسوريا، إلا أنهم يرون أن إمكانية التوصل إلى تفاهمات ربما تؤدي إلى ضبط الحدود بين البلدين بجانب تعاون في مجالات عسكرية وأمنية – تحُول دون تدهور الأوضاع في سوريا وانتقال تبعاتها إلى المنطقة الحدودية. (BBC)