دمشق-سانا: كشف نائب رئيس الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، الدكتور عصام الخليف، لوكالة سانا عن تفاصيل قضية فساد تعود إلى عام 2017، وتتعلق بعمل إحدى أهم منشآت الغاز في سوريا. القضية تتضمن تورط وزير النفط والثروة المعدنية آنذاك، وتسببه في تفاقم معاناة الأسر السورية نتيجة نقص حاد في إمدادات الغاز.
بداية القضية وتفاصيلها
أوضح الدكتور الخليف أن القضية بدأت في أوائل عام 2017، عقب انتهاء المعارك بين تنظيم داعش وقوات النظام البائد في بادية حمص الشرقية، وسيطرة النظام على المنطقة التي تضم معملاً وحقلاً للغاز. كشفت شركة الغاز، من خلال لجنة فنية مختصة، عن أضرار جسيمة نتيجة المعارك وتمركز قوات النظام البائد في مقر الشركة.
أظهرت المعاينة الفنية وجود تسرب كبير للغاز من فواصل الضغط، وهي عبارة عن أوعية لفصل الغاز عن الماء والمشتقات الأخرى. قُدرت الكمية المهدورة يومياً بنحو 150 ألف متر مكعب، أي ما يعادل 10500 أسطوانة غاز يومياً، في وقت كانت حاجة السوريين للغاز المنزلي في ذروتها.
خلافات تعرقل الإصلاح
في محاولة لإعادة تأهيل الوحدة المتضررة وضواغط المعمل، تعاقدت شركة الغاز مع إحدى الشركات المتخصصة في الأعمال الفنية والهندسية في آذار عام 2018، بهدف إيقاف التسرب والهدر الحاصل، على أن تنجز الأعمال في أيلول من العام نفسه. ولكن، بعد شهرين من بدء العمل، نشب خلاف بين الوزير والمسؤول عن العمل، ما أدى إلى توقف الشركة الفنية عن العمل بقرار من الوزير، مستنداً إلى تقارير غير صحيحة تتحدث عن مخالفات من قبل الشركة المنفذة.
أدت هذه الخلافات إلى استمرار التسرب لمدة عام ونصف، من تاريخ 24/7/2018 ولغاية 10/2/2020، حيث تم التخلص من الغاز المتسرب عبر إشعاله لتجنب التلوث الجوي.
محاولات غير مجدية
أشار نائب رئيس الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش إلى أن شركة الغاز حاولت مراراً، عبر مراسلات موثقة، إعادة تفعيل أعمال الصيانة لإيقاف التسرب والهدر اليومي، لكن الوزير أصر على موقفه ورفض عودة الشركة الفنية لمباشرة أعمالها، مما أدى إلى زيادة الكميات المهدورة.
تحرك الرقابة والتفتيش
أوضح الدكتور الخليف أن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، بناءً على إخبار من إحدى الجهات المتنفذة، بدأت التحقيق في القضية وشكلت بعثة تفتيشية بتاريخ 3/8/2020. ولكن، تم إعفاء الوزير المتورط من منصبه بتاريخ 30/8 من العام نفسه نتيجة تغيير حكومي. تم الاستعانة بلجنة خبراء نظراً للطبيعة الفنية للقضية، والاعتماد في تقدير الكميات المهدورة على مهندسين متخصصين في هذا المجال.
أضاف الدكتور الخليف أن المهندسين، بسبب حساسية القضية وتورط وزير وشخصيات متنفذة، لم يتجرأوا على القيام بكشف فني دقيق، فتم الاستعانة بخبراء مستقلين. تم أخذ أقوال الوزير اللاحق، الذي كان يشغل منصب مدير عام في إحدى المؤسسات بالوزارة خلال الفترة التي جرت فيها الواقعة، وكان على اطلاع بالقضية، وفقاً لتقرير الرقابة والتفتيش المعد في تلك الفترة. وبتاريخ 23/5/2021، تم أخذ أقوال الوزير الأسبق المتورط، ولكن نتيجة علاقاته الواسعة مع منظومة فساد كبيرة، لم يتم اعتماد تقرير الهيئة الذي أنجز في 11/9/2023، وظل حبيساً داخل الأدراج حتى تاريخ 19/6/2025، حيث تم فتح القضايا العالقة الموجودة في الهيئة بعد التحرير، ومن ضمنها هذه القضية.
الأرقام تتحدث عن حجم الهدر
أكد الدكتور الخليف أنه وفقاً للتقرير، تجاوزت الكمية المهدورة خلال المدة المذكورة 46 مليون متر مكعب من الغاز، وقُدرت الخسائر المالية بـ 4 ملايين و654 ألف دولار، بالإضافة إلى خسائر إضافية تجاوزت 138 مليون ليرة سورية نتيجة تغير سعر الصرف، فضلاً عن حرمان المواطنين من مادة الغاز الأساسية، وكذلك من الكهرباء، نظراً لأن جزءاً من إنتاج شركة الغاز كان يذهب لمحطات توليد الكهرباء، والجزء الآخر للاستخدام المنزلي.
الإحالة إلى القضاء
أكد نائب رئيس الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش أنه تمت إحالة الوزير الأسبق للقضاء المختص، وفقاً لقانون العقوبات الاقتصادي رقم 3 لعام 2013، بتهمة الامتناع عن تنفيذ الالتزامات الاقتصادية. تم الحجز الاحتياطي على أمواله وأموال زوجته المنقولة وغير المنقولة، حتى يسدد مبلغ الضرر الذي ألحقه بالمال العام والمقدر بـ 4 ملايين و654 ألف دولار، حيث كان يفترض به كوزير منع هدر المال العام ورفع مستوى الإنتاج.
المحاسبة مستمرة
أكد مدير العلاقات العامة في الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، مؤيد حمادة، التزام الهيئة الكامل بالوضوح والمحاسبة مهما كانت الظروف والتحديات، قائلاً: "لن نتوانى في مسؤوليتنا عن كشف الحقيقة ومعالجة الخروقات والتجاوزات بشكل حازم وفعال، كما نلتزم بتوجيهات القيادة السورية بأنه لا أحد فوق المساءلة، وهذا ما ستثبته التحقيقات."
وأضاف حمادة: "لن نجامل ولن نساوم، بل سنعتمد على الأدلة والوثائق في كل إجراء وتحقيق، وسنسعى لحماية المصلحة العامة، بعيداً عن أي ضغوط. ما عالجناه في هذا التحقيق ليس مجرد أرقام وبيانات، بل قضية أثرت على حياة آلاف الأسر السورية، التي حُرمت من مادة أساسية في بيوتها في أكثر الفترات قسوة. هذه الواقعة ليست هدراً للمال العام فقط، بل استهتار بمعاناة المواطنين."
وأكد حمادة أهمية دعم المجتمع المدني والإعلام لمواصلة المسار الرقابي، وأن أبواب الهيئة مفتوحة لكل من يملك معلومة أو وثيقة تسهم في كشف الحقيقة وتعزيز المحاسبة، فالمال العام ليس ملكاً للدولة فقط، بل هو حق لكل مواطن ومن الواجب حمايته، وكل خطوة رقابية اليوم هي لبنة في بناء دولة القانون، ولجرائم مسؤولي النظام البائد بقية ومتابعة حتى تستعاد الحقوق.