في عصر يشهد تسارعاً في الأحداث وتزايداً في الاتجاهات الفنية، تنتشر الأغاني السريعة الانتشار بسرعة كبيرة، ولكنها غالباً ما تفتقر إلى العمق والقيمة الفنية. تتعدى هذه الظاهرة كونها مجرد ترفيه، لتصبح تحدياً في بناء وعي الأجيال الجديدة، خاصة مع غياب دور الأسرة في مراقبة ما يستمع إليه الأطفال والمراهقون.
انتشرت مؤخراً موجة من الأغاني التي تركز على الانتشار الفوري أكثر من القيمة الفنية، بكلمات سطحية وألحان مكررة وإيقاعات تهدف إلى تحريك الجسد قبل الروح. وراء هذا البريق الظاهري، يكمن واقع ثقافي وتربوي مقلق، حيث لم تعد المسألة مجرد ظاهرة موسيقية عابرة، بل مؤشراً على تحول اجتماعي وثقافي يتطلب وعياً جماعياً. الفن ليس مجرد ترفيه، بل أداة لتشكيل الوجدان، وإذا تركنا الجيل الجديد أسيراً للخوارزميات، فلا نلوم إلا أنفسنا عندما يرقصون على أنغام لا يعرفون أصلها، ويهتفون بكلمات لا يفهمون معناها.
موجة واسعة من الجدل
انتشر قبل أيام على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لفتاة صغيرة أصيبت بنوبة بكاء هستيرية أثناء حضورها حفلاً للفنان السوري عبد الرحمن فواز، الملقب بـ"الشامي"، متأثرة بإحدى أغنياته. أثار هذا المشهد جدلاً واسعاً بين متعاطفين وناقدين ومصدومين، وفتح الباب أمام أسئلة عميقة حول علاقة الأطفال والمراهقين بالفنانين وموسيقاهم.
عالم بلا فلترة
يعيش العديد من المراهقين في عالم افتراضي يتابعون فيه أخبار المشاهير ويقلدون ملابسهم وطريقة حديثهم وحركاتهم المصطنعة. هذا الانغماس المفرط يحصر شخصياتهم الحقيقية في قوالب لا تناسب بيئاتهم ومجتمعاتهم، خاصة مع سهولة الوصول إلى صور وأخبار النجوم بلا قيود. ومع غياب التوجيه الأسري، ينشأ جيل يستهلك موسيقى بلا فلترة، ويحفظ كلمات بلا معنى، ويرددها بحماس أقرب إلى الهيستيريا. ويتحول الإعجاب بالفنانين إلى تعلق مفرط يتجاوز حدود التذوق الفني، ليصبح الأطفال والمراهقون أسرى لأغانيهم وصورهم وأخبارهم، على حساب تنمية ذائقة موسيقية أو فنية حقيقية.
المربي البديل
لا تكمن الخطورة في رداءة المحتوى فحسب، بل في غياب المتابعة الأبوية لما يسمعه الأبناء. فقد أصبح الهاتف الذكي "المربي البديل"، وصارت التطبيقات المدرسة الثانية، وبات المغني قدوة ومصدراً للإلهام. وهكذا يحفظ الأطفال أغنيات مملوءة بالإيحاءات والقيم المشوهة، ويرددونها بعفوية، ويعتبرونها جزءاً من هويتهم. ومع تكرار الاستماع، تتحول هذه الحالة إلى هستيريا جماعية، حيث يصبح التعلق العاطفي شبيهاً بالانبهار المرضي، يصل أحياناً إلى البكاء في الحفلات، وكأننا أمام نسخة مكررة من ثقافة معلبة. هذا التعلق الشديد يسلب الطفل فرصة تكوين ذوقه الخاص أو التفكير النقدي تجاه ما يسمع ويرى.
الذائقة الفنية في خطر
عندما تُبنى الذائقة الفنية على إيقاعات استهلاكية وكلمات بلا قيمة، فإننا نؤسس لجيل لا يرى الفن إلا كسلعة سريعة الزوال، لا كحالة إنسانية راقية. ومع مرور الوقت، يصبح من الصعب على هذا الجيل أن يجد المتعة في موسيقى كلاسيكية أو أغنية تحمل رسالة، لأن أذنه وعقله اعتادا المحتوى السريع الخالي من العمق.
حقيقة مؤلمة
كل ذلك يقودنا إلى حقيقة مؤلمة: لم يعد أحد يعيش عمره كما ينبغي. زمن الطفولة والنقاء يوشك على الاحتضار، والأجيال الجديدة لم تعد تنمو بطريقة طبيعية متدرجة. إن قضية تعلق المراهقين بالمشاهير، وانعكاس ذلك عليهم، لم تعد مسألة هامشية، بل ظاهرة آخذة في الانتشار، تهدد بإنتاج شخصيات جوفاء، منسلخة عن ذاتها، تبحث في أعماقها عن صور الآخرين.
وائل العدس