الأربعاء, 20 أغسطس 2025 04:00 PM

السويداء: مأساة دفن الموتى تتفاقم في ظل الظروف القاسية

السويداء: مأساة دفن الموتى تتفاقم في ظل الظروف القاسية

في مشهد يدمي القلوب، دُفن عمّي، وهو من قرية الثعلة في الريف الغربي، تحت شجرة زيتون. لم يتمكن من قام بدفنه من إتمام واجب دفن جثث الجيران وأهالي القرية، لتبقى الجثث ملقاة على قارعة الطريق. أما الناجون، فقد قضى بعضهم حزناً وقهراً، ودفنوا غرباء، واقتصرت مراسم دفنهم على قراءة الفاتحة ونعي مقتضب عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

سناك سوري-رهان حبيب

صورة جديدة للموت ومراسم الدفن تعيشها السويداء، صدمت أهالي القرى الغربية والشمالية التي بقيت آمنة حتى الرابع عشر من تموز، ذكرى أليمة تسببت في مقتل عمي في عقده السادس، لأنه عزّ عليه ترك قريته الثعلة ومنزله وعمه والد زوجته العجوز الذي رفض المغادرة، غير عالم أن دخول المسلحين لمنزله سيكون نهاية حياته وحياة العشرات دون ذنب. كان هم أخي، الذي غادر القرية مع أولاده إلى مكان آمن، العودة لدفن عمه وتفقد قريته، ليكتشف أن أعمامي وعدد كبير من رجال القرية أمضوا أربعة أيام يراقبون منازلهم وهي تنهب، ويشهر عليهم السلاح، بينما تبقى جثث كثيرة تنتظر من يواريها الثرى.

وجدنا لعمي مكاناً تحت شجرة زيتون كبيرة ليرقد بسلام، ولم يكن لدينا سوى دقائق معدودة لقراءة الفاتحة قبل الفرار من الاشتباكات المتجددة، والتي أدت لاحقاً إلى مزيد من القتل والنزوح والسرقة تحت تهديد السلاح. يخبرني شقيقي أن جثث العديد من الجيران والأقارب ما زالت تنتظر الدفن تحت حرارة الشمس، بينما لا يستطيع ذووهم العودة لدفنهم، وبقي الوضع على حاله أياماً وأسابيع، والغربة تكمن في هذا الموت الذي لا يتبعه دفن ولا عزاء ولا حتى قراءة الفاتحة.

اليوم السابع عشر من تموز الأسود، كما بات يعرف في السويداء، تمكن بعض الشبان من تجاوز منطقة تل الحديد غرباً، وحملوا أكثر من 18 جثة لفظت أنفاسها على قارعة الطريق، وتضاعف العدد عند دخولهم القرية. جمعوا الجثث لدفنها، لكن القصف المتجدد حال دون ذلك، فرحل الأهالي وجثث أقاربهم تنتظر، وكانت تلك آخر مرة يدخل فيها الأهالي إلى قريتهم حتى اليوم، دون أمل يلوح في الأفق بعودة قريبة.

لم يخطر ببال صديقتي أنها ستدفن والدتها في قرية أختها المتزوجة في قنوات، ولا ابن عمي الذي حمله إخوته عندما اشتدت الاشتباكات ليغترب جثمانه عن مسقط رأسه الثعلة ويدفن في بلدة الغارية. هنا طال الطريق كثيراً على أخوة حسان ابن عمي الذي توفي مقنوصاً عند مدخل المدينة الجنوبي، وهو مدني ولم يحمل السلاح حاول يوم 16 تموز الالتحاق بأسرته لكن رصاص القناص كان أسرع إلى جسده ليبقى لليوم التالي في مكانه، إلى أن خرج إخوته تحت الخطر لسحب جثته، والاتجاه بها إلى قريتهم الثعلة للدفن لكن القتلة لم يتركوا لهم فرصة،لتبدأ الاشتباكات في القرية بشراسة جعلتهم ينقلون جثمانه إلى قرية صهره ليتم الدفن بحزن مضاعف من قدر سبّب اغتراب الروح واغتراب الجسد عن مسقط رأسه.

كما لم تطل أيام العم حسن، البالغ من العمر 78 عاماً، مريض القلب الذي خطف مع زوجته، وتحمّل ذل المعاملة وانتظر المبادلة ليعود إلى جرمانا ومنها إلى السويداء عبر معبر بصرى غير الآمن، وما أن وصل السويداء حتى توفي، وكانت مراسم الدفن عبارة عن نعي على شبكات التواصل، وتم الدفن في قرية مجاورة في مدافن أحد الأنسباء. كما تتالت أخبار وفيات عمات وخالات وأقارب لم تتحمل قلوبهم الفراق ليصلنا نبأ الوفاة على شبكات التواصل نذرف الدمع، نحزن ولا نتمكن حتى من تقديم واجب العزاء لأن الدفن في قرى الأقارب وأي مكان مناسب متوفر، هذا هو الموت الحزين الذي لم يكن يوماً جميلاً، لكن اليوم أكثر حزناً وقسوة، أكثر وحدة لأنه هجرة ونزوح للروح والجسد عن موطنه، لكبار أمضوا حياتهم يزرعون يحصدون يفرحون ويحزنون يستقبلون ويودعون في منازلهم الكل يغادر إلا الكبار واليوم غادروا إلى الأبد واختار القدر لهم لحود خارج قراهم عند أقاربهم استقبلوهم بمحبة في محنة غريبة على هذه المنطقة التي عاشت بأمان واستقرار حتى فترة قريبة.

أخيراً، اليوم وبعد شهر وخمسة أيام، عثر على جثتَي شابين من أهالي قرية سقطا، حاول الأهل إقامة موقف عزاء كان المرة الأولى التي يلتقي فيها الأهالي بعد طول غياب ليتبادلوا التعازي والأخبار التي يتقدم فيها خبر الموت على أخبار النهب والحرق والسلب وفي كل يوم نبأ جديد عن أشخاص قتلوا في منازلهم يأتي بهم وفق مصادر غير مؤكدة فرق للهلال الأحمر من القرى المنكوبة يسلمونهم في منطقة تل الحديد أو أقرب منطقة للمدينة ليتم الدفن بعد أن تحللت الجثث، لكن الحزن لم يتحلل ولم يتوقف لتبقى ذكرى الفاجعة ذكرى استباحة الأمان وقتل آخر آمالنا كسوريين قتلنا بيد سورية.

مشاركة المقال: