في اللحظات الحاسمة التي يعيشها المجتمع، حيث تتشكل الهويات وتُعاد كتابة الروايات، تبرز فئة تستغل الأحداث بدلًا من المساهمة في بناء الحقيقة. هؤلاء الأشخاص، الذين لا يُطلب منهم التضحية أو الجهد الحقيقي، يجدون في الكتابة وسيلة مربحة، فيجمعون شتات الأحداث ويعيدون ترتيب السرديات وفقًا لمصالحهم أو لضحالة خبرتهم، ثم يعرضونها للعالم بتحليل يدّعون أنه علمي ومحايد.
هؤلاء لا يصوغون المعرفة أو يعرضونها بأمانة، بل يستثمرون فيها بطريقة رخيصة، دون عناء البحث عن التفاصيل أو التأكد من صحتها، رغم أنها تخص مجتمعاتهم. لقد استُلبوا لبريق آخر يختلف عن الاستبداد الذي عرفوه، لكنهم لم يتمثلوا قيمه النبيلة، بل اكتفوا بقشوره الفارغة.
في الماضي، حين كانت تُنتهك كرامة الإنسان وتُقصف المدن ويُهجّر الأبرياء وتُقمع الحريات، كان للكلمة موقف أخلاقي نبيل. أما اليوم، فقد تحولت إلى مهنة. ما نراه في بعض الأوساط التي تدّعي العمل بالشأن العام، أشبه بأكاديميين مهجّنين أو مدعي الخبرة والبحث العلمي، يتحدثون عن مآسي الناس كما يتحدث سمسار عقارات عن ميزات عقار مهجور، بأعين باردة ولهجة خالية من الإنسانية.
أمام هؤلاء المزيفين، ندرك سريعًا أنهم لا يشبهون الشهود الحقيقيين الذين تعرضوا للخطر أو عاشوا وجع السنين الطويلة، بل هم شهود زور في محكمة التاريخ، صمتوا حين كانت الكلمة تعني الموت، أو اصطفوا إلى جانب القوة في لحظات صرخة الحرية الأولى، ثم غيروا مواقعهم حين أصبح الكلام في المعسكر الآخر مهنة تدر المال الوفير. وكثير منهم لم يعترف بتغيره، بل سعى لتقديم نفسه بوصفه المعبّر الأصيل عن قضايا لم ينتمِ إليها يومًا ما.
اقتباسًا من كتاب "خيانة المثقفين" لجوليان بندا، أقول إن وظيفة المثقف هي الدفاع عن الحقيقة، أو أن يكون شاهدًا لا متحدثًا باسم القوة، وأن يرفض التلاعب بالعقول مهما كانت المكافأة. هذا النمط الفج لا يحتاج إلى انتماء سياسي صريح، بل يكفي أن يتقمص صاحبه لغة المحايد، وأن يخفي انحيازه وراء أدوات ما يظنه البحث الأكاديمي، ليستولي على الحكاية ويعيد صياغتها وفق هواه أو وفق ذائقة جمهور خارجي لا يعرف شيئًا عما جرى، أو وفق جهله بمجتمعه والسياقات التي تقلبت فيها صرخات الحرية.
وحين نسأل هذا "الخبير" عن مصادره، نجده قد اعتمد على مقاطع من الإنترنت أو على تقارير سطحية لم يراجعها علميًا، أو على تصورات مسبقة يُلبسها ثوب "التحليل"، دون أن يكلف نفسه عناء النزول إلى الميدان أو الحديث مع أصحاب التجربة الحقيقية، أو التدقيق في الواقع بصدق، فيطلق مصطلحات ومفاهيم يظنها علمية مثل "الحرب الأهلية"، متجاهلًا أن هناك أعراضًا مختلفة أصيبت بها الثورة السورية، وقد مرت بمراحل يأس وإحباط عدة، لكنّ المراحل الأولى فيها كانت بمعظمها مراحل طهر وصفاء، وهو لا يعرف أن هناك كتلة ثورية مازالت قائمة، ولا يعرف أيضًا أن من ضحى أو استشهد أو اعتقل من حقه أن يبقى في مخيال المجتمع بالصورة المثلى التي انطلقت بها الثورة السورية، فليس من العدل أن تضيع تلك التضحيات تحت مسميات مختلفة يُدعى أنها مصطلحات علمية.
ولأن هذا النوع من الكتابة لا يحتاج إلى جذور معرفية متينة بقدر حاجته إلى مهارات في التسويق، وإلى تكرار ما يُسمع من دون فحص أو تحقق؛ نستطيع تسمية كتّابه بالمثقفين المزيفين، الذين لا يعرفون الفرق بين التحليل النقدي والتحامل، ولا يميزون بين التوثيق والاستعراض، فتجدهم يصفقون لأي كلام منمق يطابق ما يريدون سماعه، وإن كان مبنيًا على مغالطات فادحة أو معلومات ملفقة.
المشكلة لا تكمن فقط في هشاشة المحتوى وزيفه، بل في أن هذا المحتوى يسوَّق له في ظرف تاريخي ومفصلي في سيرورة المجتمع؛ فحين يُقدَّم "عمل بحثي" حول قضية عظيمة، ونجد أن مؤلفه كان مؤيدًا للقوة التي كانت تقتل الناس، ثم صار متفرجًا صامتًا وبعيدًا عن تفاصيلها حتى قرر بعد سنوات طويلة أن يكتب عنها، علينا أن نسأل أنفسنا من يملك الحق في كتابة التاريخ؟ وهل يجوز أن نساوي بين من دفع عمره ثمنًا للحقيقة، وبين من كتب عنها بعد أن تحولت إلى فرصة مادية؟
العدالة المعرفية، قد تكون أهم من العدالة القانونية التي تختص بالأوضاع الجنائية المادية في المجتمع؛ فليس كل من حمل لقبًا أكاديميًا، أو تحدث في المؤتمرات العامة، يصلح ليمثّل ذاكرة المجتمع، فهناك فرق جوهري بين من عاش تجربة ما وانكسر بها أو صمد، وبين من بقي بعيدًا عنها ثم استدعاها لاحقًا بوصفها موضوعًا لما يسميه بحثًا علميًا، أو وسيلة لبناء اسم تطلبه القنوات الإعلامية ليتحدث عن قضايا لا يعرف حقيقتها، فهذا الأخير، يشبه ما يقول عنه بندا: "لم يعد يرى نفسه في مرآة الحقيقة، بل في انعكاسات المصلحة".
من المؤسف أن بعض المؤسسات الأكاديمية في بلداننا تفتح أبوابها لهذا النوع من المتسلقين، وقد يكون ذلك إما لأنهم يعملون في مؤسسة علمية تتميز بصفة واحدة وهي أنها تقع في إحدى مدن الغرب؛ فجعلنا الاستلاب نهلّل لها ولكلّ من يعمل بها مهما كانت درجته العلمية أو معرفته بما يتحدث عنه، وإما لأنهم يعرفون كيف ينسجون خطابًا مقبولًا لدى الغرب، أو لأنهم ببساطة يمثلون نمطًا آمنًا من السرديات التي لا تُحرج أحدًا. أما من كانوا في الخنادق أو في السجون أو تحت الأنقاض، فلا صوت لهم إلا من خلال ما يُنقل بصدق وأمانة. ولو لم يفعل ذلك أحد، لضاعت الحكاية في زحام المتسلقين.
إن الكاتب الحقيقي لا يبحث عن الضوء والشهرة، بل يبحث عن الحقيقة، ولو كلّفه ذلك العزلة أو التأخر أو الإقصاء؛ فلا يُقاس الباحث بعدد المؤتمرات التي حضرها، ولا بعدد المقالات التي نشرها، بل بقدرته على طرح الأسئلة الصعبة، ومواجهته الذاتية الدائمة، وحرصه على الأمانة في تمثيل الآخرين. إن التأمل في جزء غير قليل من "الأبحاث" التي تُكتب حول قضايا محورية، سيجعلنا نجد أن عددًا كبيرًا منها يفتقر إلى الحقيقة، أو يُعاد تدويره كل مرة مع بعض التعديلات الشكلية. من دون مقابلات أو ملاحظات ميدانية، ومن دون مقارنة بين المصادر، أو مراجعة نقدية. مجرد قص ولصق مع بهارات لغوية وعناوين لامعة، ثم يُقدَّم هذا العمل في ندوة أو يُطبع في كتاب، ويُقال عنه إنه "إنتاج معرفي". هكذا تُختزل القضايا إلى أوراق، وتُباع المآسي في معارض الكتب.
ما الذي يمكن فعله أمام هذا المشهد؟ ربما أول ما ينبغي فعله هو رفض الصمت. أن نقول بصوت واضح إن هناك من يسرق حكايات الآخرين، لا لينتصر لهم، بل ليصنع لنفسه اسمًا ويزوّر حكاياتهم. أن نطالب المؤسسات والمراكز البحثية بأن تُعيد النظر في معايير اعتماد الخبراء، وألا تُكرّس من لا علاقة له بالواقع. أن نعيد الاعتبار لفكرة المثقف بوصفه شاهدًا ومجتهدًا، لا بوصفه موظفًا في خدمة أي خطاب جاهز. فالمثقفون الذين خانوا رسالتهم، لم يكتفوا بأن يضلوا بأنفسهم، بل فتحوا الباب لزمن تُشرعن فيه الكذبة، ويُطرد الصدق إلى هوامش الهامش.
ربما لن نستطيع محو كل الزيف، لكننا نستطيع أن نُبقي ذاكرة الضمير حيّة، وأن نُذكّر الجيل القادم أن الكلمة مسؤولية، وأن من يكتب عن مجتمع لا يعرفه ولا يحترمه، هو في النهاية مزوّر، مهما حمل من شهادات. المجتمعات لا تنهض بالأكاديميا الشكلية، بل بالمثقف الذي يتحرى معايير الحق والصدق والعدالة. ليس المثقف من يجيد استخدام التقنيات الحديثة ليصوغ نصه المزيف بلغة سليمة، بل من يستخدم اللغة لتكون أداة للتغيير. ليس من يتقن الخطابة، بل من يتقن الصمت حين يكون الصوت خيانة، والصوت حين يكون الصمت جبنًا.