عنب بلدي – موفق الخوجة | وسيم العدوي | أمير حقوق
من ساحة "الكرامة" في السويداء، ألقت الناشطة الأردنية نيفين الخطيب خطابًا أمام حشد من المتظاهرين في 16 آب الحالي، رافعين علم الطائفة الدرزية وعلم إسرائيل، في مظاهرة طالبت بـ"حق تقرير المصير" و"الاستقلال"، مهددة بـ"طلاق الدروز".
يشير تعبير "طلاق الدروز" إلى انفصال نهائي عن سوريا، وتشكيل دولة مستقلة في المحافظة. أثارت هذه الدعوات صدمة لدى بعض السوريين، ورغم أنها ليست جديدة، إلا أن مظاهرة "حق تقرير المصير" تعتبر منعطفًا "خطيرًا" في أزمة السويداء، مما يزيد من صعوبة إيجاد حل سياسي أو مجتمعي.
بالمقابل، يرى ناشطون وباحثون من السويداء أن مظاهرة "الاستقلال" كانت "صرخة غضب" بسبب انتهاكات القوات الحكومية و"فزعات" العشائر من مختلف المحافظات السورية، مما أثار مخاوف من إبادة جماعية وتطهير عرقي بحق الطائفة الدرزية.
تستعرض عنب بلدي في هذا الملف أسباب مظاهرة "الاستقلال" وتداعياتها على المشهد السياسي السوري، وتناقش "حق تقرير المصير" في القانون الدستوري السوري والدولي، واحتمالية التدخل الإسرائيلي، والحلول الممكنة للخروج من الأزمة.
التقسيم أو الحل السياسي
لطالما كانت وحدة الجغرافيا في الدولة السورية هاجسًا كبيرًا يؤثر في السياسة الداخلية والخارجية، حتى أصبح المساس بهذه الوحدة جريمة وذريعة لتخوين المعارضة، أو خطرًا حقيقيًا يهدد الدولة.
خلال 14 عامًا من الحرب، شهدت سوريا منعطفات عدة، بدأت بالمطالبة بالحماية الدولية والحظر الجوي، ثم مشاريع مناطق آمنة، وظلت السياسة السورية متأثرة بهاجس التقسيم، ولكن هذه المرة الأولى التي تصل فيها المطالبة إلى حد استقلال محافظة.
بين اللامركزية والفيدرالية
تعيش السويداء واقعًا خاصًا أمنيًا وسياسيًا منذ سنوات، بدأ في عهد النظام السوري السابق، وتعزز مع الحراك الذي انطلق ضده في عام 2023، والذي ترافق مع أصوات تنادي باللامركزية، الأمر الذي لاقى معارضة من الحراك نفسه.
بقي التيار المنادي باللامركزية بعد سقوط النظام، وكان أبرز الداعين له الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، حكمت الهجري، الذي يعتبر تياره اليوم بمثابة الإدارة السياسية والاجتماعية والعسكرية في المحافظة.
على الأرض، تتجه خطوات الهجري نحو حكم لامركزي، في ظل غياب المؤسسات الحكومية، مثل "اللجنة القانونية العليا" لإدارة شؤون المحافظة، و"الجيش الموحد" الذي ضم أبرز الفصائل (لواء الجبل) لتوحيدها ضمن هيكل عسكري واحد.
مقاتلون من الفصائل المحلية في السويداء – 17 تموز 2025 (AFP/ شادي الدبيسي)
حدث غير مسبوق أعقبه “تدويل”
هذه المرة الأولى منذ عام 1936 التي نسمع فيها مواطنين في محافظة سورية يطالبون علنًا بالاستقلال الكامل عن الدولة السورية، بحسب الكاتب عبد الله علي.
تدل هذه المطالبة على أن هاجس التقسيم يكاد يصبح "خطرًا ناجزًا" للمرة الأولى، وتدل على عمق الأزمة التي خلّفها اقتحام السويداء منذ منتصف تموز الماضي.
يعتبر علي أن المشكلة بين السويداء ودمشق كانت قضية سياسية يمكن حلها بالمفاوضات، ولكن الفرص لم تُغتنم، وعندما اتخذ قرار اقتحام السويداء، أصبحت السويداء قضية كرامة وانعدام الثقة.
إذا لم تتم معالجة هذه الجراح المعنوية بإجراءات وطنية، ستظل تشكل ثغرة لعبور الأجندات السياسية، وكلما تمكنت الأجندات السياسية من تكريس نفسها، ستصبح معالجة هذه الجراح أكثر صعوبة.
أحداث تموز لم تتوقف إلا بعد تدويل قضية السويداء عبر اتفاق اعترف بالدور الإسرائيلي فيه، وجاء الاتفاق بضمانة الولايات المتحدة وتركيا والأردن، والتدويل يعني خروج القضية من تحت سقف الحلول الوطنية والاعتراف بأدوار خارجية.
التقسيم والانفصال ثم الاستقلال
بعد عام 2020، كان هناك حزب واحد صغير في السويداء يدعى حزب "اللواء" برئاسة مالك أبو الخير، ويحمل أجندة انفصالية واضحة، أما اليوم، أصبحت الأغلبية في المدينة تؤيد التقسيم والاستقلال، وتحول الصوت "الوحدوي" إلى أقلية غير مسموعة، بحسب عبد الله علي.
يلاحظ علي وجود تدرج في مسير السويداء نحو المطالبة بالتقسيم بالتوازي مع تدهور علاقتها مع دمشق، وبلغ الأمر ذروته بعد المجازر الأخيرة، ورأينا للمرة الأولى اجتماع شيوخ العقل الثلاثة على موقف واحد من السلطة الانتقالية.
ما مواجهات السويداء؟
بدأت أحداث السويداء في 12 تموز الماضي، بعد عمليات خطف متبادل بين سكان حي المقوس وعدد من أبناء الطائفة الدرزية، وتطورت إلى اشتباكات متبادلة.
تدخلت الحكومة السورية في 14 تموز، إلا أن تدخلها ترافق مع انتهاكات بحق مدنيين من الطائفة الدرزية، ما دفع فصائل محلية للمقاومة.
في 16 تموز، خرجت القوات الحكومية من السويداء، ما أعقبه انتهاكات بحق سكان البدو في المحافظة، مما أدى إلى أرتال عسكرية على شكل "فزعات عشائرية" نصرة لهم.
مقاتلون من العشائر والبدو في الحي الغربي من مدينة السويداء – 19 تموز 2025 (AFP/ عبد العزيز كيتاز)
القانون يجرم الانفصال..
شروط أممية لتقرير المصير
تجرم القوانين السورية والإعلان الدستوري المؤقت دعوات الانفصال والتقسيم، وتفرض عقوبات على المطالبين بها.
قال المحامي عبد الناصر حوشان إن الإعلان الدستوري في سوريا لا يحمل أي إشارة إلى الحكم الذاتي أو الفيدرالية، والقانون الوطني السوري يعد التقسيم والفيدرالية والحكم الذاتي من الجرائم الجنائية التي تعاقب عليها أحكام قانون العقوبات العام، وتصل العقوبة فيه إلى الإعدام.
لا يمكن تعديل الإعلان الدستوري، وتضمينه أيًا من المضامين المتعلقة بأشكال الحكم المتناقضة مع الدولة السورية الواحدة، لأن ذلك يحتاج إلى دستور دائم.
المادة “304” من قانون العقوبات السوري:
“يعاقب كل من ارتكب أفعالًا تسعى إلى الاستيلاء على أراضٍ من الجمهورية العربية السورية، أو فصل جزء من أراضيها عن جسد الدولة، أو العمل على إضعاف وحدة أراضيها، بالسجن من سبع سنوات إلى 15 سنة”.
المادة “305” من قانون العقوبات السوري:
“تُشدد العقوبة إلى السجن المؤبد أو الإعدام، إذا كان ارتكاب هذه الجرائم يهدف إلى فصل جزء من الأراضي السورية”.
الاستفتاء على التقسيم باطل
أكد المحامي السوري أن "حق تقرير المصير" يكون للشعوب الواقعة تحت الاحتلال أو الاستعمار، وليس لكل مكوّن في سوريا الحق بذلك على حدة، لأن هذا يؤدي إلى تشكيل دويلات داخل الدولة، وغالبًا ما تنتهي إلى صراعات داخلية.
يعد أي استفتاء على التقسيم أو الانفصال في سوريا باطلًا، لأنه يشكل جريمة من الجرائم الواقعة على أمن الدول، وكذلك أي دعم لأي مشروع انفصالي يعتبر تدخلًا سافرًا في الشؤون الداخلية للبلاد ويتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة.
ترى الأمم المتحدة أن تطبيق حق تقرير المصير هو داخل الحدود القائمة، مما أدى إلى إقامة دول متعددة القوميات تواجه صعوبة في تطبيق حكم مشترك، ولذلك عدلت الأمم المتحدة عن ذلك بالنسبة للأقاليم داخل الدولة الواحدة المستقلة.
تؤكد الأمم المتحدة مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، مما يعني أن حق تقرير المصير لا يمنح حقًا تلقائيًا في الانفصال عن دولة قائمة، لا سيما إذا كان الانفصال يهدد استقرارها ووحدتها الإقليمية.
يعتبر حق تقرير المصير "حقًا جماعيًا وليس فرديًا"، بمعنى أن هذا الحق لا يمكن أن يمارس فقط من خلال فرد واحد أو مجموعة أفراد، بل هو خاص بعدد كبير من الناس توجد بينهم روابط مشتركة، مثل اللغة والتاريخ والثقافة.
لا يذكر ميثاق الأمم المتحدة حقًا في الانفصال، بل ينص على مبدأ سلامة أراضي الدولة واستقلالها السياسي، ويحظر التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضدها وفق المادة “2/4” من الميثاق.
تنص المادة “2/4” من الميثاق على أنه “يمتنع أعضاء الهيئة جميعًا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة”.
لافتة وضعها معتصمون سوريون على مبنى مجلس الشعب في دمشق – 17 تموز 2025 (زينة شهلا/ فيسبوك)
من ممر إنساني إلى “ممر داوود”..
إسرائيل تلعب بالأوراق
أثار مطلب فتح ممر إنساني بين السويداء وإسرائيل جدلًا في الأوساط السياسية حول أهداف الطرح ومنطقيته.
اعتبر محللون أنه طرح "غير قابل للتطبيق" تدعمه إسرائيل لأهداف سياسية وعسكرية داخل سوريا، مستغلة التوترات التي شهدتها مدينة السويداء، لتغطي تلك الأهداف بذريعة إنسانية.
ترافق الطرح مع معلومات غير مؤكد، نقلتها "أكسيوس"، تشير إلى مساعٍ لإدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، للتوسط بهدف الوصول لاتفاق يتضمن إنشاء ممر إنساني بين مدينة السويداء والجانب الإسرائيلي.
لم يعلن عن فتح ممر بين إسرائيل والسويداء عقب لقاء باريس بين وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، وكل ما رشح عنه أشار إلى ترتيبات أعمق على مستوى التهدئة والإجراءات الأمنية بين دمشق وتل أبيب.
فخ سياسي غير قابل للتطبيق
الممر الإنساني بين السويداء وإسرائيل هو طرح إسرائيلي، يهدف لتعميق الاختراق الإسرائيلي للحالة الدرزية في سوريا، ولتعزيز الاستراتيجية الإسرائيلية في الجنوب السوري، وفق ما قاله الباحث محمود علوش.
يعتقد علوش أن "طرح الممر غير قابل للتطبيق"، ولكن الأمر يتوقف على الحدود التي يمكن أن تصل إليها حكومة الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، في التعامل مع هذا الملف.
يرى الكاتب السياسي درويش خليفة، أنه رغم عدم واقعية الطرح المتداول حول فتح ما يسمى بـ"ممر إنساني" بين الجليل في إسرائيل ومحافظة السويداء في سوريا، فإن خطورة الطرح تكمن في كونه فخًا سياسيًا، تحاول تل أبيب من خلاله إيقاع السلطة السورية، عبر الترويج لرواية الشيخ حكمت الهجري وأتباعه بأن السويداء "محاصرة".
التغلغل وتسليح فصائل
لا يوجد ما يبرر إنشاء "ممر إنساني" بين إسرائيل والسويداء، لأن إسرائيل تعتدي على سوريا، وتحاول أن تتدخل في شؤونها، وهي التي تطرح هذا الممر، كما أن "الأزمة الإنسانية في السويداء جانب منها مفتعل"، من أجل المزيد من التدخل الإسرائيلي في ملف السويداء، بحسب محمود علوش.
توقع أن الهدف من الطرح هو استغلال سياسي و"تعميق ارتباط إسرائيل بالحالة الدرزية"، ومن جانب آخر، "استغلال هذا الممر من أجل تسليح الفصائل التي تدعمها إسرائيل، وبالتالي تشكيل حالة عسكرية تعقّد من قدرة سوريا على فرض سيطرتها في السويداء".
تناقض إسرائيلي
التجربة مع الجانب الإسرائيلي لا تمنح أي مساحة للثقة، ففي الوقت الذي تفرض فيه إسرائيل حصارًا خانقًا على قطاع غزة وتمنع عنه الغذاء والدواء، تضغط لفتح ممر إنساني مع السويداء، بحسب درويش خليفة.
يرى خليفة أن المسؤولية تقع اليوم على عاتق المكوّنات الوطنية السورية للعمل معًا على ترميم الثقة الداخلية، بما يقطع الطريق أمام التدخلات الخارجية، وفي مقدمتها إسرائيل، التي تحركها أهداف توسعية واضحة.
ماذا يعني قبول الممر
رفضت الحكومة السورية فكرة إنشاء ممر يصل السويداء بإسرائيل، وأكدت أنه لن يكون هناك ممر إنساني عبر الحدود، وتقديم المساعدات الإنسانية يتم حصرًا بالتنسيق المباشر مع مؤسسات الدولة في دمشق.
قال الباحث محمود علوش إنه لا يوجد ما يشير إلى أن دمشق مستعدة للقبول بهذا الطرح، ومن الطبيعي أن ترفض الممر، لأنه يعمق الجانب الإسرائيلي بالحالة الدرزية في السويداء، وسيعني إقرارها بدور إسرائيل في الجنوب السوري.
اتهامات بارتكاب “جريمة حرب”
يرى الكاتب السياسي درويش خليفة، أن مثل هذا الطرح يضع الدولة السورية في مواجهة اتهامات بارتكاب “جريمة حرب”، لأن القانون الدولي يميز بين حصار يستهدف مقاتلين مسلحين، ويعد جائزًا عسكريًا، وبين حصار يؤدي إلى تجويع المدنيين، وهو ما يصنف كجريمة حرب.
من هنا جاء رفض الحكومة السورية لهذه الفكرة، مع التشديد على أن أي تنسيق يجب أن يتم عبر مؤسساتها الرسمية.
تتهم أوساط في محافظة السويداء الحكومة بفرض حصار إنساني وعسكري، إلا أن المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، نور الدين البابا، نفى حصار السويداء، وأكد أن الحكومة فتحت ممرات إنسانية لإدخال المساعدات إلى المدنيين بالتعاون مع منظمات محلية ودولية.
الحكومة السورية رفضت فكرة إنشاء الممر الإنساني، لأنه يضعها في مواجهة اتهامات بارتكاب جريمة حرب، وفق القانون الدولي.
درويش خليفة
كاتب سياسي
“ممر داوود”.. حلم إسرائيل الكبرى يمر من السويداء
ترافق مطلب الممر الإنساني إلى السويداء بتسريبات حول “ممر داوود” الإسرائيلي الذي يصل جنوبي سوريا بشمالها الشرقي، وهو يرتبط بحلم قديم لإسرائيل.
قال الكاتب عبد الله علي إن كل ذلك يأتي ضمن إعادة هندسة الشرق الأوسط التي لم يعد رئيس الوزراء الإسرائيلي يخفي حديثه عنها، بل أصبح أكثر اندفاعًا وصار يتكلم بـ"إسرائيل الكبرى".
أضاف علي، “نحن أمام خطر التقسيم وجهًا لوجه وما سيناريو السويداء إلا البداية”، وتابع أن المخطط الأرجح الذي يجري الحديث عنه هو إنشاء “ممر داوود” بين السويداء ومناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) حتى سرير نهر الفرات، لأن إسرائيل تريد السيطرة على المياه في المنطقة.
بالمقابل، هناك من يتحدث عن مسارات أخرى لهذا المخطط كإنشاء ممر يصل إلى عفرين شمالًا أيضًا، وفق الكاتب، ولكن هذا متوقف على طبيعة التطورات ومعادلات القوة وموازينها خلال الفترة المقبلة لا سيما بين إسرائيل وتركيا.
احتمالات التدخل الإسرائيلي العسكري
لعب التدخل الإسرائيلي دورًا حاسمًا في المعركة بين القوات الحكومية، ومسلحي العشائر، والفصائل المحلية، إذ أدى تدخلها، عسكريًا، إلى انسحاب وزارتي الدفاع والداخلية إلى خارج حدود المدينة.
بات التفاوض على شؤون السويداء، بين الحكومة وإسرائيل، برعاية دولية وإقليمية، ما يثير التساؤلات حول إمكانية دعم تل أبيب لمشروع انفصال المحافظة عسكريًا.
يستبعد الباحث نوار شعبان تدخل إسرائيل عسكريًا لدعم انفصال السويداء لعاملين، الأول بسبب الحالة الإشكالية داخل المحافظة، جراء وقوعها تحت سيطرة ميليشيات، والثاني باستنزاف إسرائيل لقوتها من حربها مع “حزب الله” اللبناني و”حماس” في قطاع غزة، ثم حربها مع إيران.
ضغط على الحكومة
قال الباحث نوار شعبان إن إسرائيل تتدخل في ملف السويداء لتستفيد من هذا الملف للضغط على الحكومة السورية وإضافته إلى طاولة المفاوضات، وليس لحماية أبناء الطائفة الدرزية.
أضاف أن إسرائيل شرعنت تدخلها بحجة حماية الأقليات، مشيرًا إلى أن هذا التدخل غاب بعد انسحاب القوات الحكومية ودخول مسلحي العشائر.
تلوح إسرائيل بورقة حماية الطائفة الدرزية، منذ الأشهر الأولى التي تلت سقوط النظام السوري السابق، ظهر ذلك جليًا خلال توترات عديدة، أولها في مدينتي جرمانا وصحنايا.
حافلات تقل رجالًا من الدروز زائرين من سوريا تصل إلى قرية مجدل شمس في مرتفعات الجولان المحتل – 14 آذار 2025 (AP)
متظاهرون يرفعون علم إسرائيل في ساحة الكرامة في السويداء – 1 آب 2025 (السويداء أرض الكرامة/ فيسبوك)
عتب من السويداء.. أين التعاطف؟
قالت لبنى عبد الباسط، إحدى ناشطات حراك السويداء، إن مظاهرة “الاستقلال” كانت بدافع البحث عن غريزة البقاء بعد التعرض لما وصفته بـ"الإبادة" بمقتل أكثر من 1500 شخص خلال 48 ساعة على أساس طائفي.
نفت الحكومة السورية أي “خطة أو نية لإبادة الدروز”، بحسب وزير الخارجية، أسعد الشيباني، مؤكدًا أن حماية من ينتمون لهذه الطائفة “مسؤولية الدولة السورية”.
ترى الناشطة عبد الباسط أن اتهامات الانفصال تصبح محقة عندما يكون أمن الوطن وجيشه مبنيًا على المهنية والإخلاص وتقديس فكرة المواطنة.
وثّقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 814 شخصًا وإصابة 903 آخرين، خلال الفترة ما بين 13 و24 من تموز الماضي.
مخاوف أهل السويداء اليوم هي من أفكار عقائدية وأيديولوجية قتلوا بسببها، بحسب الناشطة لبنى، معتبرة أن الشرخ المجتمعي كوّن حالة نفسية نتجت عنها، لدى بعض أهالي المحافظة، رغبة في الانفصال أو المطالبة بحقهم في تقرير مصيرهم.
وصفت الناشطة هجوم القوات الحكومية والعشائر بـ"الهمجي والإرهابي" بسبب ما لمسته من مجازر قتل على أساس طائفي، وإهانة طالت كبارًا في السن عبر حلق شواربهم، التي تعتبر رمزًا تقدسه الطائفة الدرزية.
أشارت الناشطة إلى أعمال سرقة وحرق طالت أكثر من 30 قرية في السويداء، لأسباب انتقامية، وتهجير نحو 150,000 شخص من أبناء الريف الغربي والشمالي للمحافظة.
تكرر الحكومة أن تدخل قوات الأمن والجيش جاء لفك الاشتباك بين فصائل محلية وأبناء العشائر في السويداء، ولا تنفي حصول انتهاكات من قبل قواتها، مع تعهد بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات عبر لجنة تحقيق جرى تشكيلها لهذا الغرض.
أهل السويداء توارثوا الإخلاص والتضحية فداء للوطن من أجدادهم، من سلطان الأطرش ورفاقه الذين كانوا أول من رفع علم سوريا الأخضر، علم الثورة، في ساحة المرجة عام 1946.
كل أهل السويداء وطنيون يقدسون سوريا ولكن اليوم السوريون هم من تخلوا عن السويداء.
لبنى عبد الباسط
ناشطة سياسية
قال الدكتور فايز القنطار إن ما جرى في السويداء، والهجوم الذي وصفه بـ"البربري" و"غير المسبوق"، خلق شعورًا بوجود تهديد حقيقي، دفعهم للمطالبة بالانفصال ورفع العلم الإسرائيلي.
أضاف أن هذه الشعارات لا تعبر عن موقف السويداء، بل هي "صرخة غضب"، ويعتقد أن الانتهاكات التي مارستها القوات الحكومية، كان لها وقع شديد الوطأة، مما جعل الجميع يلتفون حول قطع أي صلة مع السلطة الحالية في دمشق.
اتهم القنطار الحكومة بتنفيذ أجندات إسرائيلية، وتسهيل فتح ممرات من تل أبيب إلى السويداء، وإخراج الأخيرة من الوطنية السورية.
“خيبة أمل”
أشار الباحث القنطار إلى خيبة أمل لدى أهالي السويداء، جراء تعاطي باقي المكونات السورية مع أحداث السويداء، بسبب عدم التعاطف معهم، باستثناء الأصوات القليلة.
بحسب الناشطة لبنى عبد الباسط، انتظر أهالي السويداء صوت السوريين في الشوارع للتنديد بـ"حرمة دم السوري على السوري" والوقفات التضامنية وصرخات غضب ترفض تكرار الأفعال التي مارسها جيش النظام السوري السابق من قتل للمدنيين وأعمال سرقة.
يشعر الناس (في السويداء) بخيبة أمل كبرى من أبناء وطنهم، هم غاضبون لهذه الهجمة “البربرية” وغاضبون أيضًا لأنه لم يتم التعاطف معهم من قبل بقية السوريين.
فهناك إما الشامت أو المتفرج، باستثناء أصوات قليلة وقفت إلى جانب أهل السويداء في محنتهم. وهذا أيضًا كان له وقع شديد الوطأة.
د. فايز القنطار
باحث وأكاديمي سوري
قالت لبنى عبد الباسط، إن أهالي السويداء تشكل لديهم شعور بنوع من “الخذلان” تجاه ما رأوه من “تجييش” الإعلام الرسمي، وانتشار ثقافة إعلامية “ممنهجة” تحاول تبرير المجازر في السويداء تحت مسميات سياسية.
بلغ “الخذلان” ذروته، وفق الناشطة، عند مقتل منير رجمة، بعد سؤال مسلح، يرجح تبعيته لوزارة الدفاع السورية، عن انتماء رجمة المذهبي، قبل أن يطلق الرصاص نحوه.
قالت لبنى، إن مقتل رجمة أوصل رسائل لأهالي السويداء، أن الجيش السوري في تكوينه العقائدي لا يعترف بالمواطنة ولا يهتم لسوريا كوطن.
ترجح وسائل إعلام وأوساط داخل السويداء، تبعية قاتل رجمة إلى المؤسسة العسكرية الحكومية، بينما تدور شكوك حول انتمائه إلى “فزعات” العشائر التي قدمت إلى السويداء.
وثقت شبكات محلية في السويداء، ضلوع عناصر ينتمون إلى القوات الحكومية بانتهاكات وأعمال قتل تجاه مدنيين، أبرزها مقتل مدني يرتدي زي الفرق الطبية داخل مستشفى “السويداء الوطني” على يد مسلح يشتبه بانتمائه للأمن الداخلي.
وعدت وزارتا الدفاع والداخلية بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات، من كل الأطراف، إلا أن هذا الإعلان لاقى رفضًا من ناشطين داخل السويداء.
متظاهرون في ساحة الكرامة في السويداء يطالبون بحق تقرير المصير – 16 آب 2025 (الوكالة الفرنسية)
خطوات لحل أزمة السويداء
يرى ناشطون وباحثون من السويداء أن أفق الحل مسدود، بسبب مقاطعة جهات داخل المدينة التعامل مع الحكومة بشكل نهائي، بعد أحداث منتصف تموز الماضي، معتقدين أن مفاتيح الحل بيد الحكومة، والأخيرة تمنعه.
ترى الناشطة السياسية لبنى عبد الباسط، أن الحكومة السورية تمنع الحل السياسي بسبب سماحها للقوى الخارجية بأن تفرض نفسها في الداخل السوري، ولجوئها إلى العسكرة وفرض طوق عسكري على المدينة.
يعتقد الباحث والأكاديمي فايز القنطار، أن المصالحة بين السويداء والسلطة مستحيلة، ويرى أن تدخلًا عربيًا من السعودية، أو إعادة طرح مؤتمر وطني أو تحقيق انتقال سياسي، وفق القرار الأممي “2254” يمكن أن يفتح أفقًا للحل.
يرى الباحث السياسي الدكتور نادر الخليل، أن الخطوات السياسية المطلوبة للخروج من الأزمة في السويداء، تتمثل بخمس نقاط هي:
- فتح المعابر الإنسانية بشكل فوري، وضمان وصول المساعدات دون عوائق، وإعادة الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وصحة
- إصلاح سياسي ومؤسسي عبر ضمان تمثيل حقيقي لأبناء السويداء في مؤسسات الدولة، بما يعكس تنوع المجتمع السوري، وتبني نموذج لامركزي إداري يمنح صلاحيات موسعة للإدارة المحلية، دون المساس بوحدة الدولة.
- فتح تحقيق مستقل وشفاف في أحداث تموز الماضي، مع إمكانية الإشراف الأممي، ومحاسبة جميع المسؤولين عن الانتهاكات، وتعويض المتضررين، وإطلاق مشاريع لإعادة إعمار المناطق المنكوبة.
- إطلاق حوار مجتمعي يضم الفعاليات المدنية والسياسية، وليس فقط الزعامات الدينية، والعمل على نزع سلاح الميليشيات، ودمج العناصر الراغبين في مؤسسات الدولة الأمنية.
- مواجهة التدخل الخارجي والانفصالية، وكشف الحملات الدعائية التي تروّج للتقسيم، ومواجهتها بخطاب وطني جامع، وتعزيز الهوية الوطنية السورية عبر الإعلام والتعليم والمبادرات المجتمعية.
الإرادة السياسية للحل
يرى الكاتب عبد الله علي أن السلطة في دمشق لم تعد قادرة على الحل، في ظل تدويل الملف، وكذلك لم تعد قادرة على اللجوء إلى خيارات التفافية مثل “فزعة العشائر” لأن ذلك سيعتبر بمثابة “انتحار”.
يخشى علي أن تؤدي بعض الأخطاء الإعلامية أو السياسية سواء من جانب دمشق أو السويداء إلى جعل أقصى أماني السوريين أن يعيشوا ضمن فيدرالية وألا تتقسم سوريا بالفعل.
مبادرات أهلية
خرجت دعوات من ناشطين وسياسيين لحل الأزمة في السويداء، عبر مبادرات أهلية، أبرزها “لجنة المبادرة الأهلية لحل أزمة السويداء”، التي أسسها الشيخ مطيع البطين، المتحدث السابق باسم “المجلس الإسلامي السوري”.
قال رئيس اللجنة، البطين، إن الأزمة في السويداء تحتاج إلى جهود جميع أبناء البلد، بما فيهم الدولة والجهات القائمة في السويداء والمؤثرون والفاعلون وممثلو العشائر والنخب الوطنية والمرجعيات الدينية والمجتمعية.
أضاف أن الحل يكمن برفض التدخل الخارجي وجلوس الجميع على طاولة واحدة تحت سقف الوطن، إضافة إلى رسائل ومبادرات بين كل الأطراف الموجودة تمهد الجو للوصول لإنهاء هذه الأزمة.
يرى البطين أن المبادرات الأهلية مسألة “مهمة جدًا”، لأن الأهالي هم الذين يتعايشون وهم المتضررون من أي أزمة، وهم المادة الأساسية والمعول عليها والمتأثرة بالحالة سلبًا أو إيجابًا.