مع حلول شهر آب، تفوح رائحة التين الناضج في أرجاء ريف اللاذقية، حيث تتزين البساتين بألوان التين الأبيض والبنفسجي، لتشكل لوحة فنية طبيعية. ينشغل المزارعون وأبناؤهم بجمع الثمار التي أثقلت الأغصان، وتصدح أصوات السلال الممتلئة ممزوجة بضحكات الصغار وفرحة الكبار. لم يعد التين مجرد محصول موسمي، بل هو جزء من حكاية القرى، غذاء للجسم، ودواء للصدر، ومصدر رزق يضمن الاستمرار في هذه الأرض.
التين بين المائدة والعلاج الشعبي
منذ القدم، نظر الأهالي إلى التين ليس فقط كفاكهة، بل كجزء من صيدلية الطبيعة. الجدات ما زلن ينقعن التين المجفف في الحليب أو الماء الدافئ ويقدمنه لمن يعاني من السعال وضيق التنفس. هذا العلاج الشعبي يلطف الحلق ويخفف البلغم ويهدئ آلام الصدر. انتقل التين من جيل إلى جيل كغذاء وعلاج، وأصبح جزءاً من العادات الصحية الموروثة.
التجفيف.. مؤونة الشتاء
أشار بعض المزارعين في قرية عين التينة بريف اللاذقية لـ "صحيفة الحرية" إلى أن رحلة أخرى تبدأ مع التين بعد قطافه، حيث يتم تجفيف جزء كبير منه ليكون مؤونة طوال العام. وأكدوا أنهم ينتقون الثمار الناضجة ويشقونها بخفة ثم يصفونها على حصائر القصب أو القش فوق الأسطح والمصاطب الحجرية لتعريضها للشمس والهواء البحري.
أوضح العم أبو تمام أنه مع التقليب اليومي، تكتسب الثمار قوامها المطلوب وطعمها المركز، ثم تُرص في صفائح أو أكياس قماشية ويُرش عليها القليل من الطحين أو اليانسون للحفاظ عليها من الرطوبة. وأشار إلى أن هذه العملية التقليدية تمنح التين اليابس قدرة على التخزين وتجعله عنصراً أساسياً في مطابخ الريف، حيث يدخل في المربيات والدبس والحلويات الشعبية التي تزين الموائد في الشتاء.
فوائد التين
أكد الأخصائي في الأمراض الصدرية الدكتور نادر الخوري لـ "الحرية" أن التين يحتوي على مواد صمغية طبيعية تساعد على تلطيف الأغشية المخاطية في الحلق، مما يجعله مكملاً فعالاً لعلاج السعال الجاف وتهيج القصبات. وأشار الأخصائي في التغذية الدكتور سامر إسماعيل إلى أن التين، سواء كان طازجاً أو مجففاً، يعتبر غذاءً متكاملاً، يمد الجسم بطاقة سريعة لغناه بالسكريات الطبيعية، ويحسن عمل الجهاز الهضمي بفضل الألياف، بالإضافة إلى احتوائه على الكالسيوم والحديد والمغنيزيوم الذي يقوي العظام ويحافظ على صحة الدم.
البعد الاقتصادي
أشار المهندس الزراعي محمود حسن إلى أن التين في ريف اللاذقية يشكل ركيزة اقتصادية مهمة إلى جانب قيمته الغذائية والعلاجية، حيث يؤمن محصوله دخلاً إضافياً لآلاف الأسر في الساحل. وأوضح أن التين اليابس يحظى بإقبال متزايد في الأسواق المحلية، ويُستثمر في صناعات غذائية متنوعة، لافتاً إلى أن عملية تجفيفه بسيطة وغير مكلفة، وتعتمد على خبرة الأهالي والظروف الطبيعية، مما يجعله محصولاً ذا جدوى اقتصادية واضحة.
ثمرة تجمع بين الماضي والحاضر
هكذا يتجسد موسم التين في ريف اللاذقية كحدث جامع، يربط الناس بأرضهم ويمنحهم رزقهم، ويعيد إلى الذاكرة وصفات الأجداد التي لا تزال حاضرة حتى اليوم. بين حلاوة الطعم وفائدة الغذاء ودواء الصدر، وبين سوق البيع ومردود العائلة، يبقى التين شاهداً على دورة حياة الريف الساحلي، وموسماً يتجدد كل آب ليحمل معه معنى البركة والحياة.