لم يكن قرار الحكومة اللبنانية بطرح شعار «حصرية السلاح» مجرد حدث عابر في السياسة الداخلية، بل خطوة أعادت النقاش إلى نقطة البداية حول مستقبل سلاح حزب الله. ومع إصرار الحزب على رفض أي مساس بهذا السلاح، يتضح أن الصراع لم يعد مجرد صراع سياسي داخلي، بل يتقاطع مع حسابات إقليمية أوسع، وعلى رأسها قرار إسرائيل بشأن احتمالية تجدد الحرب على لبنان.
من جهة أخرى، تبدو إسرائيل في موقف صعب بين أمرين متناقضين: الأول هو التعجيل بالحسم خوفًا من استعادة الحزب لقوته بسرعة وتحويل الضربات الأخيرة إلى فرصة لتعزيزها، والثاني هو التريث خشية أن تؤدي أي حرب جديدة إلى تغيير موازين القوى وعودة الصواريخ إلى تل أبيب، مما يقوض الرواية التي يروج لها نتنياهو حول إنهاء خطر الحزب.
في خضم هذه التناقضات، تتزايد التساؤلات في لبنان: هل يمثل شعار «حصرية السلاح» بداية لمرحلة جديدة من المواجهة الداخلية والخارجية؟ أم أنه مجرد فصل إضافي في مسار أزمة، تبقى فيه احتمالية الحرب قائمة، ولكن توقيتها يعتمد على حسابات إسرائيلية معقدة؟ منذ نهاية الحرب الأخيرة، يتصرف العقل الإسرائيلي على أساس أن الفرصة التي سنحت لتوجيه ضربات قاسية إلى حزب الله قد لا تتكرر مرة أخرى. وعلى الرغم من الجراح العميقة التي أصابت الحزب، تدرك إسرائيل أن الضربة القاضية لم تتحقق. وقد أثبتت تجربة أربعة عقود أن حزب الله ليس حركة يمكن إضعافها إلى حد الانهيار، ولا يشبه منظمة التحرير التي أُخرجت من بيروت عام 1982، بل هو تنظيم عقائدي يتمتع بقدرة كبيرة على التعلم والتكيف.
هذا الأمر يزيد من قلق إسرائيل، لأن كل يوم يمر يسمح للحزب بإعادة بناء قدراته وترميم ما تهدم واستنباط طرق جديدة لمواجهة التهديدات. وبما أن الحزب يميل إلى تحويل كل انتكاسة أو تهديد إلى فرصة لاكتساب خبرة أكبر وتجميع عناصر قوة إضافية، ترى تل أبيب أن «النافذة الزمنية» المتاحة لها الآن قد تنغلق سريعًا.
من هنا ينبع الاستعجال الإسرائيلي: الاعتقاد بأن الحسم يجب أن يتم قبل أن يكمل الحزب ترتيب صفوفه واستعادة قدراته. فالتقديرات الأمنية للعدو تشير إلى أن الضربات التي أصابت قيادة وبنية الحزب التحتية لن تظل فعالة لفترة طويلة، وأن أي تأخير يمنح الحزب فرصة استعادة زمام المبادرة.
لكن هذا الاستعجال ليس كافيًا لدفع إسرائيل نحو الحرب، فالحسابات السياسية والعسكرية في تل أبيب أكثر تعقيدًا مما تبدو. صحيح أن إسرائيل خرجت من المواجهة الأخيرة بقدر من التفوق النسبي وحرية حركة أوسع، لكن هذا لا يعني أن خوض حرب جديدة سيكون بالضرورة في صالحها.
في الداخل الإسرائيلي، يروج نتنياهو لرواية مفادها أنه استطاع «تحييد خطر حزب الله» أو على الأقل تقليصه إلى الحد الأدنى. وأي مواجهة جديدة تحمل في طياتها خطر تقويض هذه الرواية بسرعة، إذ يكفي أن تسقط صواريخ على تل أبيب أو مدن الوسط لتنهار صورة «الانتصار» وتتحول إلى عبء سياسي على الحكومة.
على الصعيدين الإقليمي والدولي، تعلم إسرائيل أن أي حرب واسعة على لبنان قد تعيد خلط الأوراق مع الولايات المتحدة ومع العواصم العربية التي تشهد مسار تطبيع متفاوت. كما أن التغيرات في سوريا والعراق واليمن تجعل ميدان الحرب أكثر تشابكًا، واحتمالات المفاجآت أعلى مما كانت عليه في السابق. وهذا ما يجعل التريث خيارًا غير ثانوي، بل ضرورة سياسية وعسكرية، ما دامت إسرائيل تستثمر مكتسبات الحرب الأخيرة، دون المجازفة بخسارتها في مواجهة جديدة قد تكون مكلفة وغير محسوبة النتائج.
في الداخل اللبناني، يحتدم النقاش حول مشروع «حصرية السلاح»، حيث يستغل خصوم حزب الله فرصة تاريخية للتخلص منه نهائيًا. ويتساءلون عما إذا كان العدو سيدعم هذه الجهود عبر القيام بخطوات ملموسة، مثل الانسحاب من النقاط الخمس المحتلة في الجنوب، أو وقف الاعتداءات المتكررة والاغتيالات والغارات الجوية؟ انطلاقاً من الاعتقاد بأن هذه الإجراءات تسحب الذرائع من يد الحزب وتمنح الحكومة قوة لفرض قرارها.
قد يبدو هذا الخيار منطقيًا، لكن إسرائيل لا تفكر بهذه الطريقة. فالغطرسة الإسرائيلية لا تسمح بهكذا «تنازلات»، وهي تقول إنها تصنع «أمنها» بيديها، لا عبر أي معاهدات أو ترتيبات أمنية. لذلك فهي تفضل تكريس معادلة التفوق والهيمنة، حتى لو كانت النتيجة المباشرة أن تمنح حزب الله نقطة قوة إضافية في النقاش الداخلي. فالحزب يطرح السؤال البديهي: كيف يُطلب منه التخلي عن سلاحه فيما العدو لا يزال يحتل وينتهك ويضرب؟
بهذا المعنى، تعيد إسرائيل إنتاج المعادلة نفسها: إصرار على إظهار السيطرة واليد العليا، ولو على حساب منح حزب الله المزيد من الأسباب والشرعية في التمسك بسلاحه. إنها سياسة تقوم على الإذلال وردع الخصوم، ضاربة عرض الحائط القرار 1701 أو أي مسار دبلوماسي يمكن أن يقود إلى استقرار حقيقي.
في المقابل، يبدو أن حزب الله يعتمد مقاربة جديدة لإعادة بناء معادلات الردع، تقوم على العودة إلى المجهول. فالحزب بات ممتنعًا عن الكلام العلني حول قدراته العسكرية، وتوقف عن استعراض نوعية السلاح أو الإعلان عن عمليات إعادة البناء، مفضّلًا الصمت والغموض على الإفصاح والتباهي.
هذا النهج يعيد إلى الأذهان المرحلة الممتدة منذ تأسيس الحزب حتى حرب تموز 2006، حيث كانت السرية التامة والحساسية الأمنية المطلقة من أبرز سمات عمله. يومها، كان الغموض نفسه مصدر قوة، إذ ترك العدو في حالة شك دائم حول ما يملكه الحزب، ما جعل المخيلة الإسرائيلية تميل دائمًا إلى افتراض الأسوأ.
اليوم، يبدو أن الحزب يسعى إلى استعادة هذا الغموض البنّاء، إذ يتحول إلى أداة ردع بحد ذاته: فالتكتم على القدرات وخطط التعافي يعيد للحزب قدرة على المفاجأة، ويجعل إسرائيل عاجزة عن التقييم بدقة لحجم التهديد. ويعيد حزب الله صياغة ردعه عبر العودة إلى الغموض البنّاء: صمت مدروس يعيد إنتاج حالة الشك لدى العدو.
ولعل أكثر ما يعبر عن هذه المقاربة هو ما قاله مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة: «نحن حزب قتال، ولكن حزب روية بالقتال». فالحزب اليوم لا يتخلى عن سلاحه ولا عن مشروعه، ولكنه يقدم نفسه كتنظيم أكثر ترويًا وسرية، لا يُستَفز ولا يجانب خوض معركة حسب توقيت الآخرين، فيجمع بين الاستعداد الدائم وبين الصبر الإستراتيجي، ليعيد صياغة الردع من موقع الظل لا من منصة العلن.
بين الاستعجال الإسرائيلي بالحسم خوفًا من تعافي حزب الله، والتريث المحكوم بالحسابات السياسية والعسكرية، يبقى قرار الحرب على لبنان معلقًا في دائرة المجهول. فتل أبيب ترى في كل يوم يمر فرصة ضائعة لإضعاف الحزب، ولكنها تدرك في الوقت نفسه أن أي مواجهة جديدة قد تعيد إطلاق الصواريخ على تل أبيب، وتُفشل سردية «النصر» التي يسوقها نتنياهو.
هكذا، يقف لبنان على حافة مواجهة جديدة، في معادلة شديدة الحساسية: إسرائيل لا تثق بالوقت وتخشى المستقبل، وحزب الله يراهن على الزمن كسلاح سري بحد ذاته.