بعد مرور نصف قرن على عرضه الأول وفوزه بـ"السعفة الذهبية" في "مهرجان كان السينمائي"، يصل فيلم "وقائع سنين الجمر" (1975) للمخرج الراحل محمد لخضر حامينا (1934 – 2025) إلى بيروت. تستضيف "الأخبار" أمسية في ملتقى "السفير" يوم الجمعة، يعقبها نقاش مفتوح مع الأكاديمية التونسية هالة اليوسفي والكاتب بيار أبي صعب.
تعتبر هذه الأمسية، التي تدشن سلسلة ندوات شهرية تنظمها "الأخبار"، فرصة لمشاهدة فيلم شكّل علامة فارقة في تاريخ السينما العربية، والأهم من ذلك، هي بمثابة استعادة وتكريس لذاكرة مقاومة صاغها حامينا بعدسة بصرية لا تزال مؤثرة حتى اليوم.
كان المخرج محمد لخضر حامينا (1932 – 2024) صوتاً قوياً للمقاومة وأحد أبرز من جسدوا صورة الحرية على الشاشة. رحلت السينما العالمية عنه قبل أشهر، لكن إرثه لا يزال حاضراً كجزء من التاريخ البصري للعرب.
ترك حامينا دراسة الزراعة والقانون في فرنسا وانخرط في صفوف الثورة الجزائرية في تونس، قبل أن يتوجه نحو السينما في براغ، ثم عاد ليصنع أفلاماً وثائقية عن الكفاح مثل "صوت الشعب" و"بنادق الحرية". بعد الاستقلال، أسهم في تأسيس البنية التحتية للسينما الجزائرية، ليصبح لاحقاً رائدها الأبرز.
لم يقدم حامينا سينما تسجيلية فقط، بل فناً ملحمياً يتقاطع فيه التاريخ بالأسطورة، والذاكرة الفردية بالوعي الجماعي. هكذا تحولت أفلامه إلى شهادات حية توازن بين الجمالية الفنية والموقف السياسي.
مع فيلم "وقائع سنين الجمر"، بلغ مشروع حامينا ذروته. الفيلم الذي نال السعفة الذهبية في "مهرجان كان" (1975) يعيد تركيب تاريخ الجزائر النضالي بين 1939 و1954، عبر ستة فصول تبدأ بـ"سنوات الرماد" وتنتهي بـ"1 نوفمبر"، تاريخ اندلاع الثورة.
لا يكتفي حامينا بسرد الوقائع، بل يغوص في البنية العميقة للمجتمع الجزائري: حياة القبائل، والبؤس الزراعي، وقسوة الاستعمار، وانفجار الوعي الجمعي بالحرية. شخصيات الفيلم مثل "أحمد" الذي أداه يورقو فوياجيس، و"مولود" الذي جسده حامينا، تتجاوز كونها شخصيات درامية لتصبح رموزاً للصمود.
المفارقة أن حامينا، وهو يعرض الفيلم في "مهرجان كان"، كان مهدداً بالقتل من جماعات فرنسية متطرفة، ما استدعى حماية له ولعائلته. هذه المفارقة تختصر علاقة السينما بالواقع: فيلم يفضح قسوة الاستعمار يثير هلع المستعمر حتى بعد رحيله.
يعتمد حامينا في "وقائع سنين الجمر" على بناء بصري يزاوج بين التراجيديا الإغريقية والملحمة الثورية. اللقطات الواسعة للجبال، والتفاصيل الدقيقة لوجوه الفلاحين، والمجازر التي يرويها بواقعية صادمة… كلها تؤسس لسينما لا تنقل الخبر فحسب، بل تعيد صياغة التجربة التاريخية في لغة الفن السابع.
هنا، لا تبدو الثورة مجرد محطة تاريخية، بل نتيجة حتمية لمسار طويل من الجوع، والقهر، والحرمان. لا يرفع حامينا شعارات مباشرة، بل يمنح المتلقي تجربة حسية ووجدانية، تجعله يلامس ثمن الحرية من لحم البشر وذاكرة الأرض.
بعد الفيلم، واصل حامينا إنتاج أعمال كبرى مثل "رياح رملية" (1982) و"الصورة الأخيرة" (1986)، قبل أن يعود عام 2014 بـ"غروب الظلال". ورغم الانتقادات التي لاحقته حول مواقفه السياسية بعد الاستقلال، ظل وفياً لرؤية فنية تضع الإنسان – لا الشعارات – في قلب الصورة. لقد شبهه النقاد بمخرجين عالميين أمثال غودار وبونويل، ولكن فرادته تكمن في أنه صاغ سينما عالمية بلسان جزائري. رحيله شكل خسارة، ولكن إرثه ظل جسراً ثقافياً بين الجنوب والغرب.
عرض "وقائع سنين الجمر" في بيروت اليوم هو فعل استعادة، لا لمخرج رحل فحسب، بل لذاكرة شعب صاغ حريته بالصورة والدم. النقاش الذي سيليه مع الأكاديمية التونسية هالة اليوسفي والكاتب بيار أبي صعب سيعيد طرح الأسئلة حول معنى المقاومة، ودور الفن في زمن الأزمات، وكيف يمكن للسينما أن تبقى ساحة مواجهة بعد نصف قرن على إنتاجها.
بهذا المعنى، لا تُختتم الأمسية بالفيلم، بل تبدأ منه: كوثيقة تاريخية، وتجربة جمالية، ونداء متجدد إلى أجيال عربية تبحث عن صوت سينمائي يعبر عنها.
* "وقائع سنين الجمر": السابعة من مساء الغد ــ "ملتقى السفير" (الحمرا ــ بيروت)