اعتبر الكاتب والمخرج السوري فارس الذهبي فوزه بجائزة الجمهور في فرنسا عن مسرحيته "طيران فوق عالم قذر" لحظة مفصلية في مسيرته الفنية والإنسانية. وأكد الذهبي في حديث لصحيفة «الحرية» أن الجائزة ليست مجرد تكريم، بل هي اعتراف بأن القضية السورية، عندما تُعرض بلغة فنية صادقة، قادرة على لمس مشاعر الجمهور الغربي. وأضاف: "الجمهور لا يتفاعل مع القضية كملف سياسي بارد، بل مع الحكاية عندما تتحول إلى تجربة حية على خشبة المسرح، تجسد الألم والأمل والكرامة".
يشير الذهبي إلى أن تجربته المسرحية شهدت تحولاً جذرياً بين دمشق وباريس. ففي سوريا، كانت الكتابة فعلاً من أفعال التحدي في ظل الرقابة السياسية والاجتماعية، ومحاولة لفتح نافذة في جدار سميك. أما في فرنسا، فقد وجد نفسه أمام تحدٍ جديد: كيف يحافظ على صوته وسط الحرية الكبيرة والأصوات المتعددة. ويتابع: "لم أعد مشغولاً بكسر الرقابة فقط، بل بخلق لغة مسرحية تلامس إنساناً في أي مكان". ويضيف أن أسئلته المسرحية أصبحت أكثر عالمية، تتناول مفاهيم الحرية والذاكرة والمنفى والعدالة، وأن هدفه في المهجر هو إثبات أن المسرح السوري قادر على محاورة العالم بندية فنية وحرة.
وعن المسرحية الفائزة، يوضح الذهبي أنها ليست مجرد نص عن الخراب، بل محاولة للتحليق فوقه كفعل مقاومة جمالية، قائلاً: "العالم القذر هو الواقع المثقل بالاستبداد والحرب والفساد، أما الطيران فهو الفعل الفني، الخيال الذي يرفض الغرق في الوحل". ويؤكد أن الكتابة كانت اختباراً صعباً: أن تبقى قريباً من العتمة دون أن تبتلعك، وأن تبحث في الوقت نفسه عن نافذة ضوء.
ويشرح الذهبي أن اختياره لصيغة المونودراما الشعرية كان خياراً جريئاً، يتطلب توازناً دقيقاً بين كثافة اللغة الشعرية وحيوية الأداء المسرحي: "كان عليّ أن أخلق لغة وسيطة شعرية قادرة على النفاذ إلى العاطفة، وفي الوقت نفسه قابلة للتجسيد، للحوار الداخلي، وللتحول إلى فعل مسرحي حي". ويضيف أن المونودراما، بوجود ممثل واحد وفضاء محدود، تُعرض دائماً لخطر الرتابة، لكنه واجه هذا التحدي عبر تنويع الإيقاعات، واللعب بالصوت والجسد والإضاءة، ليبقى السرد نابضاً بالحياة.
وعن تطور مشروعه المسرحي، يقول الذهبي إن أعماله الأولى مثل ريح وشيزوفرينيا وليلى والذئب، وصولاً إلى مولانا التي جابت العالم، ثم طباخ روحه وزفرة السوري الأخيرة، تمثل انتقالاً من الاحتجاج المباشر إلى مساءلة أعمق للذاكرة والحرية والعدالة. ويضيف: "الخيط الرابط بين كل هذه الأعمال هو إيماني بأن المسرح فعل مقاومة ينتمي إلى القوة الناعمة التي نحتاجها، سواء ضد الاستبداد، أو ضد النسيان، أو ضد تحويل الإنسان إلى مجرد رقم".
ويؤكد الذهبي أن المسرح هو الفضاء الأكثر قدرة على مساءلة السلطة، لأنه يضع المتحكمين بالمجتمع أمام الجمهور مباشرة، ويجعل من الاستبداد شخصية عارية قابلة للنقد والسخرية. ويتابع: "المسرح يفتح باب التجريب على مصراعيه، ويمنح الجمهور فرصة لتصور الحرية الممكنة". ويشير إلى أن مسرحية زفرة السوري الأخيرة اشتغلت على فضح اللغة الدعائية، وتحويل الشعارات إلى مادة كوميدية حين تفشل في التطبيق، كاشفاً فراغ الاستبداد من المعنى، كما أعادت الاعتبار للذاكرة الجمعية عبر استعادة قصص الضحايا والمهمشين.
وفي حديثه عن طباخ روحه، يوضح الذهبي أنه اختار أن تُروى الثورة السورية من منظور فتاة، في خطوة فنية تحمل موقفاً أخلاقياً واضحاً: «شخصية لبنى ليست مجرد شخصية، بل رمز لجيل كامل حُرم من قول كلمته». ويضيف أن صوتها على الخشبة يُقوّض الصمت المفروض على النساء، ويمنح الجمهور نافذة لرؤية الاستبداد من الداخل، من خلال من يُفترض أنه "الأضعف" اجتماعياً: «أن تُروى الثورة من خلال فتاة يعني أن الثورة ليست ملكاً للرجال فقط، بل هي مشروع شعب، حملت النساء جزءاً كبيراً من أعبائه ودفعن ثمنه مضاعفاً».
ويختم الذهبي حديثه بالتأكيد على أن المسرح لا يزال قادراً على التأثير في زمن هيمنة الصورة والشاشة، بل إنه الفضاء الوحيد الذي يُعيد الاعتبار للحوار الإنساني المباشر. ويقول: «إن عاد المسرح فإن كل الفنون ستنتعش، ليس عبثاً أن يلقب المسرح بأبي الفنون." ويضيف: "المسرح الحقيقي هو الذي تنمو فيه الفكرة في عقل المؤلف، ليبلورها المخرج مع ممثليه، وتتحول إلى أطروحة للنقاش والتفاعل». بهذا التوجه، يواصل فارس الذهبي بناء مشروع مسرحي لا يكتفي بالعرض، بل يُمارس فعلاً ثقافياً وإنسانياً يعيد تشكيل الوعي، ويمنح المسرح السوري موقعاً عالمياً لا بوصفه فناً هامشياً، بل بوصفه شهادة حيّة على قدرة الإنسان على التحليق، حتى فوق أكثر العوالم قذارة.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية