على مدى عقود، سعى النظام البائد إلى فرض "هوية وطنية" مصممة خصيصًا له، مما أدى إلى محاولة طمس الهوية السورية المتعددة الثقافات والغنية حضاريًا. لم يقتصر الأمر على قمع الحريات السياسية، بل امتد إلى تفريغ المجتمع من ثقافته وذاكرته.
لم يقتصر التدمير على البنية التحتية والأرواح، بل طال الركائز الرمزية التي تشكل هوية المجتمع السوري، مثل اللغة والفنون والتعليم والتراث المعماري والإنساني. منذ تولي الرئيس المخلوع بشار الأسد الحكم عام 2000، استمر في سياسة السيطرة المطلقة على الحقل الثقافي، مكملاً ما بدأه والده من عسكرة المجتمع وتدجين المؤسسات الثقافية. المسرح والسينما والأدب وحتى التعليم أصبحت أدوات دعائية بيد السلطة، واختزلت الهوية السورية في شعارات قومية ضيقة تمجد الحزب القائد وتقصي كل ما عداه.
الأخطر من ذلك، أن النظام استخدم الحرب ذريعة لتدمير مواقع التراث الإنساني تحت غطاء "مكافحة الإرهاب"، كما حدث في تدمر وأجزاء كبيرة من حلب القديمة وأحياء دمشق التاريخية.
لم تكن الثقافة بمنأى عن القبضة الأمنية، والرقابة لم تقتصر على الكتب والمقالات، بل امتدت إلى المسرحيات والسينما والمهرجانات. كل نص فني كان يمر عبر سلسلة من الموافقات الأمنية، وأي خروج عن المألوف كان يعني المنع أو الاستدعاء، أو الاعتقال وربما القتل. الدراما السورية، التي عُرفت بجودتها، وقعت في فخ الترويج لخطاب الدولة، أو على الأقل، الابتعاد التام عن الواقع، والأصوات الجريئة تم التضييق عليها أو إقصاؤها بهدوء.
مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، ظهرت أصوات ثقافية من تحت الركام. شبان وشابات بدؤوا بإنتاج أفلام قصيرة توثق الحراك الشعبي، ورسامون حوّلوا جدران المدن إلى لوحات احتجاج، وشعراء ومغنون أعادوا إحياء القصيدة الشعبية إضافة إلى الموروث الغنائي الثوري. ظهر جيل جديد من الفنانين الذين لم ينتظروا تمويلاً من الدولة، بل اعتمدوا على أدوات بسيطة، إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، لإيصال صوتهم. وكان لتجارب مثل "مهرجان كان يا مكان" في إدلب، أو "راديو الكل" و"عنب بلدي"، أثر كبير في بناء بديل إعلامي وثقافي مستقل.
إعادة بناء الهوية الثقافية السورية أصبحت ضرورة. فالثقافة، حين تُفقد، يُفقد معها المعنى، وذلك يتطلب جهوداً طويلة الأمد، تتجاوز الشعارات، من خلال إنشاء مشاريع وطنية لحفظ التراث الشفوي والتقليدي، ورقمنة الوثائق، الصور، الأغاني، القصص، والمخطوطات القديمة، وتسجيل وتوثيق الذاكرة الجمعية، إضافة إلى إدراج التراث الثقافي ضمن مناهج التعليم المدرسي والجامعي، وتنظيم ورش عمل للأطفال والشباب لتعليمهم الحرف والفنون التراثية.
يجب أيضاً إنتاج أفلام وثائقية ومسلسلات تلفزيونية تعكس التاريخ والثقافة السورية، ودعم الصحافة الثقافية والمجلات المختصة، والترويج للموسيقا والفنون التقليدية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب تنظيم مهرجانات تراثية ودعم الفرق الشعبية والموسيقية لإحياء الفلكلور، وإقامة معارض حرفية وفنية دورية.
من الخطوات التي تفيد بإعادة بناء الهوية أيضاً، ترميم المواقع الأثرية والمباني التاريخية، وإنشاء متاحف محلية تحكي قصص الشعوب والثقافات المختلفة في سوريا، وربط هذه الأماكن بالسياحة الثقافية والتعليمية.
بما يتعلق بالجهات الرسمية، يطلب من الحكومة وضع قوانين تحمي التراث الثقافي وتحظر انتهاكه أو تزويره، وتخصيص ميزانية سنوية لدعم الأنشطة الثقافية، وإشراك وزارات التربية، الثقافة، السياحة، والإعلام في خطة متكاملة.
وائل العدس