الجمعة, 26 سبتمبر 2025 01:40 AM

الشرق: صدى الأرواح وذاكرة السماء في مواجهة الاستشراق

الشرق: صدى الأرواح وذاكرة السماء في مواجهة الاستشراق

الشرق، كما يراه د. سلمان ريا، ليس مجرد ظل على خرائط الغزاة، بل هو صدى الأرواح منذ فجر الخليقة، والينبوع الذي ارتوت منه البشرية. إنه النبض الأول للكون، وكل حجر ونهر ووادٍ فيه يحمل ذاكرة السماء والأرض.

ومع ذلك، لم يكن الشرق في نظر الغرب إلا موضوعًا للكتابة وصورة مرسومة بالافتراضات، لا حياة تُعاش ولا روح تُفهم. وكما قال جبران، فإن الويل لمن ولدته أمه على طريق الحرير، وهو ويلٌ لم يأتِ من التجارة وحدها، بل من لعنةٍ صارت قدرًا. طريقٌ عابرٌ للغزاة، من الحرير إلى الحديد، ومن التوابل إلى البنادق، ومن الكلمات إلى السجون. طريقٌ فُتحت أبوابه للعالم، لكن العالم لم يدخل ضيفًا، بل دخل ليمتلك ويكتب الحكاية بلسانه.

من هنا، ظهر الاستشراق، لا كمرآة صافية، بل كقناع يخفي الحقيقة. لم يكن المستشرق باحثًا عن الشرق، بل صانعًا لشرقٍ جديد على الورق؛ شرقٍ جامد لا يتحرك، شرقٍ عاجز يحتاج إلى عقل غربي ليعلمه كيف يكون. هكذا صار الاستعمار واجبًا أخلاقيًا، والنهب حقًا مشروعًا، والشرق طفلًا أبديًا يُقاد بالسلاسل.

وعندما تحدثوا عن الإسلام، أرادوا أن ينزعوا عنه سره، قائلين إن نبوة محمد ليست إلا صدى للتوراة والإنجيل. لكنهم تناسوا أن التوراة والإنجيل هما من هذا الشرق أيضًا، وأن أنبياءهما مشوا على هذه الأرض نفسها، وأن نبوءاتهم نُطقت بلسانٍ من ألسنة الشرق ذاته. لقد أرادوا فصل القرآن عن أهله، والإنجيل عن أهله، والتوراة عن أهلها، ليصبح الشرق كله غريبًا حتى عن ذاته.

لم يكتفوا بما كتبوه، بل أعادوا إنتاج الصورة ذاتها مرارًا، مقتبسين من بعضهم البعض، حتى صار الشرق عندهم نصًا يتكرر، لا حياة تتحرك. لم ينصتوا إلينا، بل تكلموا نيابة عنا، وجعلوا من صمتنا حجةً ليملؤوا الفراغ بأصواتهم.

هذا هو الاستشراق كما رآه إدوارد سعيد: خطابٌ لا يصف الشرق، بل يخترعه. معرفة ليست بريئة، بل أداة في يد السلطة. إنه الوجه الآخر لطريق الحرير، الذي حمل يومًا الحرير والبهارات، ثم صار يحمل البنادق والخرائط والكتب المقيّدة بالافتراضات، ويحمل روح الشرق مسلوبًا، عالقًا بين السماء والأرض.

أجل، الويل لمن وُلد على هذا الطريق. الويل لمن صار جسده معبرًا للأطماع، وصوته صدى لغيره، وتاريخه أوراقًا يكتبها غريب.

ومع ذلك، يظل في الشرق سرٌّ لا يزول: أنه مهما حُبس في الكلمات الغريبة، يبقى قادرًا على أن يتكلم بلسانه، ويشعل نوره في الظلام الكوني، ويستدعي طاقاته من أعماق الأرض ومن مجرات السماء. ومهما أُعيد تشكيله في العقول الغربية، يبقى قادرًا على أن يعيد تشكيل ذاته، وأن يحوّل القيود إلى جناح، والخرائط المقطوعة إلى أمواج تتدفق في الكون، ويقوم من جديد، لا بوصفه موضوعًا مكتوبًا، بل ذاتًا حية، كالكواكب التي تدور بوعيها في السماء، تصنع كتابها بيدها، وتروي حكايتها بصوتها، لتتلو على الزمان نفسه نشيد الحياة، وتخبره أن الشرق حيٌّ، وأن الروح فيه أبدية.

مشاركة المقال: