الجمعة, 26 سبتمبر 2025 11:08 PM

رحيل كلوديا كاردينالي: وداعاً لآخر رموز العصر الذهبي للسينما الإيطالية

رحيل كلوديا كاردينالي: وداعاً لآخر رموز العصر الذهبي للسينما الإيطالية

بقلم: شفيق طبارة

في فيلم «حدث ذات مرّة في الغرب» (1968)، يبرز مشهد أيقوني يلخص مسيرة كلوديا كاردينالي (1938 – 2025). لحظة وداعها لهارمونيكا (تشارلز برونسون)، تحمل نظرة عينيها، المصحوبة بموسيقى إينو موريكوني، الكثير.

على الرغم من قصر الحوار، إلا أنه يحمل لمحة من تاريخ السينما وتاريخ كاردينالي، كما صوره سيرجيو ليوني. يصور ليوني عاشقين ينظران إلى بعضهما بتواطؤ، مدركين استحالة حبهما. تكمن قوتهما في القدرة على تحمل الفراق والحب دون ندم. تقول كاردينالي وهي تنظر في عينيه: «أتمنى أن تعود يوماً ما»، فيجيب هارمونيكا وهو ينظر إلى الخارج: «يوماً ما».

جمالها كان عصياً على الفهم، كنا نعود دائماً إلى أفلامها، رغم أنها كانت بعيدة المنال. كانت تخفي أكثر مما تكشف، لكنها كانت رشيقة، وصريحة، ومتقدة، ورحيمة. كانت مقدسة، لا يمكن التحكم بها، أو امتلاكها، أو قياسها، أو تصنيفها. كانت العيب في الصورة اللامعة، والغموض في السحر. أميرة، ثورية، حبيبة، أماً، حلماً، جسداً مراوغاً، وحضوراً ملموساً. تجنبت السينما لمدة طويلة، تماماً كما لا ينبغي للمرأة أن تستسلم بسرعة لتقدمات العشيق.

عاشت كاردينالي كل حياة ممكنة، وقالت: «عندما كنت صغيرة، كنت أرغب في الذهاب إلى كل مكان وأن أكون الجميع، وقد حققت ذلك من خلال عملي. المثير للاهتمام بالنسبة إلى الممثلة ليس فعل ما تريد، بل أن تكون شخصاً آخر. كنت شقراء، سمراء، أميرة، عاهرة، كنت كل شيء».

حملت أفضل سنوات السينما الإيطالية بصمة جمالها وموهبتها، والجرأة التي ميزت شخصيتها. كانت من آخر الناجين من ذلك المجد، كما قال لها آلان دولون (1935 – 2024) باكياً عندما حضرا عرض فيلم «الفهد» (1963، «The Leopard»)، للوتشينو فيسكونتي بنسخته التي أعاد مارتن سكورسيزي ترميمها خلال «مهرجان كان».

«نحن الوحيدون الذين بقوا على قيد الحياة. الجميع ماتوا». سبقها دولون السنة الماضية، والآن انضمت هي إلى حشد من الأسماء العظيمة التي تخلد ذكريات تلك السينما التي سنواصل مشاهدتها دائماً.

بدأت كاردينالي رحلتها في السينما بالمصادفة تقريباً. ولدت في تونس، ونشأت في منزل متعدد الثقافات. كانت تتحدث الفرنسية في المنزل، وتعلمت اللهجة التونسية في الشارع، وسمعت والدها يتحدث بلغة صقلية على مائدة العشاء.

الغريب أنها لم تتعلم الإيطالية حتى بدأت التمثيل، وهو ما يفسر لكنتها المميزة التي رافقتها طوال حياتها. حلمت الشابة بأن تصبح معلمة، لكن في سن صغيرة، فازت بمسابقة «أجمل فتاة إيطالية في تونس»، التي تضمنت رحلة إلى «مهرجان البندقية السينمائي».

هناك لفتت أناقتها وعيناها اللوزيتان وقوامها المتوسطي، أنظار المنتجين. التقت بالمنتج فرانكو كريستالدي، الذي فتح لها باب السينما، ثم تزوجته لاحقاً، بموجب عقد صارم ندمت عليه طوال حياتها. أدى جمالها الآسر إلى تآكل هيمنة شخصيات أخرى في عصرها، إذ جمعت الجاذبية الغامضة والنضارة المذهلة في كل ظهور لها.

كانت متمسكة بجذورها الصقلية ولكنها امتلكت رقياً حاداً. عرفت كيفية اختيار أدوارها بعناية وذكاء، حتى في ظل عقد كريستالدي الأسدي الذي كان يتطلب عدداً من الأفلام سنوياً وأرباحاً قليلة. عملت مع العظماء من فيسكونتي إلى فيلليني وماريو مونيتشيلي، وماركو فيريري وماورو بولوجينيني وغيرهم الكثير، وفي فرنسا مع نجوم أمثال دولون، وجان بول بلموندو، تحت إشراف هنري فيرنويل، وأبيل غانس وخوسيه جيوفاني.

بينما كانت ترتدي البيكيني الأخضر الزمردي اللون في البندقية، كانت تعتقد بأن تلك اللقطات القليلة من الكاميرات أشبه بلعبة. لكن تلك اللعبة صار لها اسم عندما صاغ فيلليني مصطلح «باباراتزي». ثم قدمها في فيلم «8½» (1963)، كأثيرية، معلقة في الهواء، ووعد بمستقبل أبدي، قادرة على تغيير العالم بمجرد وجودها، كصورة مثالية.

وبهذه الصورة، ودع فيلليني آخر لحظات الواقعية القاسية ما بعد الحرب، وجسد المعجزة الاقتصادية القادمة، المفعمة بالسحر والإثارة. في السنة نفسها، وقفت أمام كاميرا فيسكونتي. علقت مرة على هذا التناقض الذي عاشته ذلك العام بين فيلليني في روما وفيسكونتي في صقلية، قائلة: «مع فيسكونتي، لم يكن بالإمكان التحدث في موقع التصوير. مع فيديريكو، كان الجميع يصرخون، يتحدثون على الهاتف. كان هناك ضجيج كضجيج السيرك».

كانت دائماً تخاطر عند اختيار أدوارها، ولم تخش أبداً الانغماس في قصص معقدة تحت أوامر المخرجين المتطلبين. فعلت ذلك مع ماركو فيريري في فيلم «جلسة الاستماع» (1972)، وهو نقد لاذع لدور الكنيسة في الثقافة الإيطالية. وتجرأت مرة أخرى على مغامرة غير عادية في Fitzcarraldo لفيرنر فيتزوغ، حيث كانت محاصرة بالأدغال وجنون كلاوس كينكسي.

وفي «الفهد»، رقصت مع الأمير ومع التاريخ، حيث تخبر كل خطوة عن الصعود والتنازل والجمال والقوة. وسارت بين المحطات والمقاعد في فيلم «الفتاة ذات الحقيبة» (1961)، حيث ظهرت هشة وعنيدة، كأننا بها وجه إيطاليا التي تتعلم كيف تكبر. وفي فيلم «يوم البومة» (1968)، كان نظرتها كل ما يمكن قوله ضد المافيا.

كانت دائمة قادرة على العمل في الأفلام الكوميدية الساخرة والتنقل من فيلم «روفوفو» (1968 ــ ماربو مونيتشيللي)، إلى مقابلة بازوليني، أو عبور المحيط لنشر سحرها العالمي، في محطة فلاغستون في «حدث ذات مرة في الغرب»، عندما تكشف الكاميرا عنها في قلب ملحمة ذكورية بالكامل.

لكنها كانت دائماً تعود إلى أرض طفولتها. كرمتها المدينة بتسمية شارع باسمها، يقع في منطقة ميناء حلق الوادي. إنه المكان نفسه الذي صورت فيه عام 1997 فيلم «صيف في حلق الوادي» للتونسي فريد بوغدير، الذي يدور حول صحوة غرامية لمجموعة من الأصدقاء عشية حرب الأيام الستة. وفي أحد أفلامها الأخيرة «جزيرة الغفران» (2022) للتونسي رضا الباهي، استحضرت قصة كاتب تونسي من أصل إيطالي، في إشارة واضحة إلى سيرتها الذاتية.

كانت إيطاليا في سنوات الازدهار الاقتصادي والاستهلاك، لا تزال شابة للغاية. لم يكن لديها سوى قرن من التاريخ. رغم أنها هزمت جحافل موسوليني، إلا أنها كانت لا تزال بحاجة إلى أرضية مشتركة للحفاظ على نفسها، لتجنب تقطيع أوصالها.

في فترة لم يستطع فيها شخص من ميلانو فهم شخص من باري، أصبحت كاردينالي واحدة من تلك الروابط أو الحلقات التي توحد بلداً كاملاً. ورغم أنها تعترف بمواقف حزينة في السينما تفضل عدم تذكرها، فقد احتفظت إلى الأبد بجزء من نفسها، محفوظ في قلبها، لم ترغب أبداً في مشاركته.

كرست حياتها بأكملها للسينما والإعلان والموضة، لكنها سعت دائماً إلى حماية نفسها، وعدم التخلي عن المشاعر والتعلق والرغبة. كما لو كانت بحاجة إلى الشعور، ولكن ليس إلى المعاناة.

تعرضت للاغتصاب في مراهقتها على يد منتج سينمائي، فحملت، واتخذت قراراً صعباً بتربية ابنها. عملت في السينما لكسب عيشها واستقلالها، «فعلت ذلك من أجله، من أجل باتريك، الطفل الذي أردت الاحتفاظ به رغم الظروف والفضيحة الفادحة». في السينما، كانت لديها مؤسسة مخصصة لقضيتين: حقوق المرأة وحماية البيئة.

كانت كاردينالي خير ممثلة لنهضة السينما الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية في أعقاب الواقعية الجديدة الشهيرة. ومن بين الصالات الكثيرة التي تحتضنها ذاكرتنا السينمائية، تحتل كاردينالي مكانة خاصة، ليس لأنها الأكثر بريقاً أو الأكثر صراحة، بل لأنها دخلت مخيلتنا الجماعية من الباب الخلفي للصالات، الباب الذي يفتح على الغموض لا الصخب.

وهناك بيت بيتها، في عمق صامت، وبنظرة تبقى حتى بعد انقضاء كل شيء. ستظل كلوديا كاردينالي تراقبنا من مكان ما، وستبقى مشاهدها تعود لتطاردنا كأضواء بين ستائر ما بعد الظهيرة.

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

مشاركة المقال: