لم يكن خير الدين الأسدي مجرد باحث يجمع الكلمات والأمثال، بل كان مؤرخًا لحضارة مدينة بأكملها. سعى لتوثيق روح حلب وتفاصيل الحياة اليومية فيها من خلال موسوعته الضخمة "موسوعة حلب المقارنة".
في هذه الموسوعة، قام الأسدي بتدوين لهجة المدينة وأمثالها وحكاياتها الشعبية، ووصف الأسواق والأحياء والعادات والتقاليد، وحتى الصناعات والحرف اليدوية التي شكلت هوية أهلها.
تجاوزت الموسوعة كونها مجرد سجل لغوي لتصبح نافذة يطل منها القارئ على نبض المدينة وروح سكانها، حيث يستمع إلى حكاياتهم وأمثالهم التي تحمل حكمة الأجيال وتجاربهم.
صدرت الطبعة الأولى من الموسوعة عام 1981 عن جامعة "حلب"، لتصبح من أبرز الأعمال التي وثقت لهجة حلب وتراثها الشعبي. احتوت على أكثر من 50 ألف كلمة حلبية دارجة، وما يزيد على عشرة آلاف مثل شعبي، بالإضافة إلى وصف الأحياء والأسواق القديمة والصناعات التقليدية والعادات الاجتماعية والأسماء المتداولة.
ما يميز هذا العمل هو الطريقة التي جمع بها الأسدي مادته، حيث اعتمد على مصادر شفوية ومكتوبة، وقارن اللهجة الحلبية بغيرها من اللهجات العربية لإظهار خصوصيتها وغناها الثقافي. كما ركز على توثيق الأمثال والحكايات الشعبية التي تعكس رؤية الحلبيين للحياة والعلاقات الاجتماعية، وقدم فهارس دقيقة لتسهيل البحث.
هذا الجمع بين الكم الهائل من المعلومات والتوثيق الدقيق والمقارنات اللغوية يجعل من الموسوعة مرجعًا فريدًا للباحثين والمهتمين بتاريخ المدينة وثقافتها ولغتها.
في المجلد الأول، ركز الأسدي على المفردات اللغوية ومقارنتها باللهجات العربية الأخرى، بينما تناول المجلد الثاني الأمثال الشعبية والحكايات المتداولة. وتناول المجلد الثالث العادات والتقاليد المرتبطة بالمناسبات والأعياد، وقدم المجلد الرابع وصفًا تفصيليًا للأسواق والأحياء القديمة. خصص الأسدي المجلد الخامس للصناعات التقليدية والحرف اليدوية، وركز المجلد السادس على الأسماء والألقاب المتداولة. وفي المجلد السابع، جمع المؤلف الملاحق والفهارس التفصيلية.
تبقى موسوعة الأسدي كنزًا ثقافيًا يمنح القارئ فهمًا عميقًا لتراث حلب ولغتها وأمثالها وعاداتها الاجتماعية، ويتيح قراءة نقدية واعية لما يقدمه المؤلف من مادة موسوعية واسعة. إنها نافذة على روح المدينة وذاكرتها الجمعية، ومرجع لا غنى عنه لفهم حلب بكل تفاصيلها الثقافية والاجتماعية.
خير الدين الأسدي
وُلد الأسدي عام 1900 في حي الجلوم بحلب، وتلقى علومه فيها قبل أن يتجه إلى التدريس والبحث في اللغة العربية والتراث الشعبي. عمل الأسدي على جمع الأمثال والأغاني والعادات والأسماء والأسواق والصناعات، تاركًا إرثًا ضخمًا عن مدينة حلب، وتوفي عام 1971، بعد أن قضى سنواته الأخيرة في تدقيق موسوعته وإضافة الكلمات والمحتوى.