الأربعاء, 8 أكتوبر 2025 04:30 PM

صعود الذهب في زمن الأزمات: الاقتصاد العالمي يواجه تحديات متصاعدة

صعود الذهب في زمن الأزمات: الاقتصاد العالمي يواجه تحديات متصاعدة

دمشق-سانا: في ظل التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي بسبب الرسوم الجمركية المتبادلة والأزمات السياسية المتلاحقة، يبرز الذهب كمؤشر على حالة الاضطراب المالي التي يشهدها العالم. فقد تجاوز سعر الأونصة حاجز الأربعة آلاف دولار للمرة الأولى، مما يعكس حجم القلق في الأسواق العالمية من واشنطن إلى طوكيو، مروراً بأوروبا والشرق الأوسط.

منذ جائحة كورونا، تتوالى الأزمات، بدءًا بتعطيل سلاسل الإمداد وارتفاع التضخم، وصولًا إلى حروب الرسوم وانهيار الصناعات. يبدو العالم متجهًا نحو اقتصاد يعتمد على الذهب كملاذ آمن.

من الجائحة إلى الحمائية

بدأت الأزمة في عام 2020 مع تفشي الجائحة وإغلاق الاقتصادات، مما أدى إلى ركود غير مسبوق. توقفت المصانع، وانهارت السياحة، وارتفعت ميزانيات الدول بسبب الإنفاق الطارئ. ومع التعافي التدريجي في 2021 و2022، انفجر التضخم نتيجة لزيادة الطلب وارتفاع تكاليف النقل والطاقة.

استجابت البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة وتقليل السيولة، ولكن هذا الإجراء أدى إلى تباطؤ النمو دون القضاء على التضخم، مما جعل الاقتصاد العالمي أكثر هشاشة. تشير تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن النمو العالمي لن يتجاوز 3.2% في 2025، مع توقع استقراره عند 2.9% في 2026، وهي نسب بالكاد تكفي لتجنب الركود. كما بلغ مؤشر عدم اليقين التجاري، الذي ترصده “الأونكتاد”، أعلى مستوياته منذ بدء التسجيل، مما يدل على أن العالم لا يزال يبحث عن توازن بين العولمة والحمائية.

الرسوم الأمريكية.. صدمة القرن

في خطوة وُصفت بأنها “انقلاب اقتصادي”، رفعت الولايات المتحدة متوسط الرسوم الجمركية إلى 22.5%، وهي النسبة الأعلى منذ ثلاثينيات القرن الماضي. هذا القرار، الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضمن سياسة “إعادة القوة إلى الصناعة الأمريكية”، قوبل بردود فعل، حيث فرض الاتحاد الأوروبي رسومًا مضاعفة على واردات الصلب الأمريكية لتصل إلى 50%، وهو ما اعتبره قادة الصناعة “تهديدًا وجوديًا” لصناعة الصلب البريطانية والأوروبية.

تشير بيانات معهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن هذه الحرب الجمركية قد تخفض النمو العالمي بنحو نصف نقطة مئوية خلال عامين، وقد ترتفع معدلات التضخم الأمريكية إلى 3% بحلول 2026. يزداد المشهد تعقيدًا مع تهديد الصين بإجراءات مضادة وتوسيع صادراتها نحو الشرق الأوسط وأفريقيا لتجاوز الحواجز الغربية.

الذهب… لغة القلق الجديدة

لم يكن ارتفاع الذهب مجرد حدث اقتصادي عادي، بل لحظة رمزية تعبر عن ذروة القلق المالي. لطالما اعتُبر الذهب “الملاذ الآمن” لأنه يحافظ على قيمته في أوقات عدم اليقين الاقتصادي. في مستهل التعاملات الآسيوية، بلغ سعر الذهب 4001.11 دولار للأونصة، بعد أن ارتفع بأكثر من 50% منذ بداية العام، وهي مستويات غير مسبوقة. وكان قد تجاوز عتبة الألفي دولار في آب 2020 خلال ذروة جائحة كوفيد-19، ثم تذبذب حول هذا السعر حتى عام 2024، حين بدأ صعوده المتسارع: 2500 دولار في آب، 3000 في آذار، و3500 في أيلول.

تتفق التحليلات على أن “الملاذ الآمن” عاد إلى الواجهة، فمع الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة وتزايد الحديث عن خفض الفائدة، تحركت رؤوس الأموال من الأسهم والسندات نحو الذهب والمعادن الثمينة. قفز الذهب بأكثر من 52% منذ مطلع العام، مدفوعًا بعوامل غير مسبوقة: توقعات خفض الفائدة الأمريكية، مشتريات ضخمة من البنوك المركزية، ضعف الدولار، وتصاعد التوترات الجيوسياسية. هكذا، لم يعد الذهب مجرد مؤشر على الخوف، بل تحول إلى “لغة جديدة” لقياس المزاج الاقتصادي العالمي.

أوروبا في عين العاصفة

في المقابل، يعيش قطاع الصلب الأوروبي أسوأ أيامه، فمع الرسوم الأمريكية الجديدة ومضاعفة الاتحاد الأوروبي للرسوم على الواردات الأمريكية، وجدت الشركات البريطانية نفسها على حافة الانهيار. وصف رئيس الهيئة الصناعية البريطانية، غاريث ستايس، الموقف بأنه “أخطر أزمة في تاريخ الصناعة”، محذرًا من أن “التدفقات العالمية من الصلب الرخيص قد تغرق السوق الأوروبية خلال أشهر”. من جهتها، تعمل المفوضية الأوروبية على خفض الحصص المعفاة من الرسوم بنسبة 47%، وفرض إلزام بالإفصاح عن منشأ الصهر والصب لمنع التحايل التجاري، في خطوات تؤكد أن الحمائية لم تعد خيارًا بل واقعًا جديدًا.

ارتدادات عربية

الدول العربية ليست بمنأى عن هذه التحولات، فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يمثلان أسواقًا رئيسية للطاقة والبتروكيماويات، وأي تباطؤ في النمو العالمي سينعكس على الطلب على النفط وعائدات المصدرين. وفي المقابل، تشير استطلاعات الرأي إلى أن بعض الاقتصادات العربية قد تستفيد من إعادة توجيه سلاسل الإمداد، وخاصة في الصناعات الوسيطة والخدمات اللوجستية.

سيناريوهات المستقبل

أمام هذا المشهد المعقد، ترسم المؤسسات الاقتصادية ثلاثة سيناريوهات محتملة: التهدئة (خفض تدريجي للرسوم وتنسيق دولي)، الاستمرار الجزئي (بقاء جزء من الرسوم مع نمو ضعيف وضغوط تضخمية مستمرة)، والسيناريو الأسوأ (حرب تجارية شاملة تقود إلى ركود عالمي وانهيار في سلاسل الإمداد).

لكن ما يبدو مؤكدًا هو أن العالم يعيش لحظة مفصلية، عنوانها “الذهب يصعد حين تهبط الثقة”، فكلما ازدادت التقلبات السياسية والاقتصادية، ازداد بريق الذهب وتراجعت الثقة في الأنظمة المالية التقليدية.

اختبار التاريخ

من جائحة أربكت العالم، إلى حرب رسوم تعيد رسم خريطة التجارة، إلى قفزة الذهب التي تكشف عمق الخوف في الأسواق، يقف الاقتصاد العالمي اليوم على أعتاب مرحلة جديدة: لا هي عولمة كما عرفناها، ولا انغلاق تامًا كما يخشاه البعض. إنه عالم يعيد تعريف الثقة، ويعيد تقييم المخاطر، ويبحث عن نظام تجاري أكثر عدلاً واستدامة. وكما ترى “الأونكتاد” في تقريرها الصادر في الـ 16من نيسان الماضي، فإن التنسيق لا يمنع الأزمات، لكنه يخفف حدتها ويقوي القدرة على التكيف. “نحن بحاجة ماسة إلى تنسيق أقوى للسياسات والتجارة الإقليمية، في ظل مسار الاقتصاد العالمي نحو الركود، مدفوعًا بتصاعد التوترات التجارية وعدم اليقين المستمر”. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل نحن أمام ولادة اقتصاد عالمي جديد، أم أمام دورة أخرى من الفوضى المقنعة بالذهب؟

مشاركة المقال: