الأربعاء, 15 أكتوبر 2025 03:43 PM

عودة زياد الرحباني وكارول سماحة إلى الأضواء بأغنية "ما بتنترك وحدك"

عودة زياد الرحباني وكارول سماحة إلى الأضواء بأغنية "ما بتنترك وحدك"

بشير صفير

تختلف المقالة التي تتناول ألبوماً كاملاً عن تلك التي تركز على أغنية واحدة. فالأولى تتسم بالعمومية، وتسلط الضوء على الجوانب المشتركة للإصدار وملامحه الأساسية، مع تخصيص مساحة موجزة للأغاني ذات الخصوصية.

لكن هذه المقالة تتعمق في تفاصيل أغنية واحدة، لفرادتها وقيمتها المعنوية والفنية. إنها أول عمل لـ زياد الرحباني يصنف تحت خانة "Posthume"، وهي الفئة المعتمدة للأعمال التي تنشر بعد وفاة المؤلف.

يشمل هذا التصنيف جميع الأعمال التي تلي الوفاة، وينقسم إلى قسمين: الأول، ما كان المؤلف بصدد نشره قبل وفاته؛ والثاني، ما لم يكن ينوي نشره لسببين: إما لعدم اكتمال العمل، أو لانتظار المؤلف التوقيت المناسب للنشر.

يتولى الورثة أو الأجيال اللاحقة القسم الثاني، فينشرون أعمالاً غير مكتملة (مع إمكانية إضافة خبير ما يلزم دون المساس بجوهر العمل، مع ذكر ذلك بوضوح)، أو ينتظرون فرصة مناسبة للإفراج عن العمل المكتمل غير المنشور.

أغنية النجمة اللبنانية كارول سماحة، «ما بتِنتَرَك وَحدَك»، تنتمي إلى القسم الأول. وستتبعها أعمال أخرى، بدءاً من تلك التي تنتمي إلى هذا القسم (مثل ألبوم الفنانة لطيفة التونسية المرتقب)، ثم تلك التي تقع تحت القسم الثاني بشقيه، وهي بالعشرات، بما في ذلك ألبوم كامل (على غرار «هدوء نسبي»، ولكن بمستوى أعلى تنفيذاً على الأقل) بعنوان مؤقت: I Love Studer A (نسبةً إلى ماكنة التسجيل الألمانية الأسطورية Studer A827 ولأسباب تتعلق بالصوت).

هذا الألبوم شبه منجز منذ حوالي عشرين عاماً. لماذا لم يصدر؟ لأن المحبة الفائضة والمديح العالي والولع الجارف بالرجل وبفنه يمكن أيضاً تصنيفها بـ… Posthume. قلة كانت تمارس هذه المشاعر علناً قبل «السبت الأسوَد»، والأسوَأ أنها كانت تتعرّض للتنمُّر أحياناً، مِن رافعي الراية والدابِكين «عالراس» اليوم. زياد شخص حسّاس وأبٌ صالح.

أعمالُه أطفالُه ولن يعرّضهم لمجتمعٍ أوحَت غالبيّته باحتمال استقبال فلذات كبده بلا مبالاة. النقد السلبي، ولو بلغ التجريح، كان يؤثّر في زياد، من دون أن يثنيه عن النشر. لكن ليست اللامبالاة. لنغرز السكّين قليلاً بعد: إنّ جمْع ما أبدعه زياد ولم يصدر رسمياً (منجَز بالكامل أو جزئياً أو بشكل تجريبي أو فقط في حفلة أو بقيَ على ورق)، بعيداً من كل التسجيلات الحيّة، يمكن أن يعادل ثلاثة إلى خمسة ألبومات… وربما أكثر.

الحاضر الكبير نتكلّم اليوم عن الراحل الكبير! هذا غير دقيق. الأصحّ، هو الحاضر الكبير. الراحل الكبير هو زياد الذي كان بيننا ولم ننتبِه. هذا الحكي بات بلا قيمة. ما خسرناه قد خسرناه، وسنُلعَن شرَّ لعنةٍ من أجيال واعية بعد نهضةٍ آتية، آجلاً لا عاجلاً على الأرجح. وكما ترون وتسمعون، حتى الآن، «ماشي التخبيص» أو بأقل تقدير غياب الدقّة، على كل المستويات، بما فيها الرسمية والشعبية والإعلامية (ولا نستثني «الأخبار»).

«التخبيص» ليس عن سوء نية غالباً، ويمكن غض النظر عنه أمام الاستغلال. عفواً، الاستغلالات: الفنية، المادية، الشخصية، الإعلامية والحزبية وحتى المذهبية (كان ليقول: قطيعة تُقطَعكُن… ما بتنطاقوا)، لأننا نأبى ألّا نُلعَن مرّتَين، عمّا قبل 26 تموز (يوليو) 2025 وعمّا بعده أيضاً. المتفانون والصادقون من عيونهم يُعرفون ومن نبرات أصواتهم (فاتن حموي نموذجاً).

أغنية شعبية لبنانية ويأتي صوت القارئ: «فشَّيت خِلقَك؟ فينا نفوت بالموضوع»؟ — نعم، فوراً. عنوان الأغنية: «ما بتِنتَرَك وَحدَك». التوقيت؟ مفاجئ وصائب. جميلة؟ جداً. جديدة؟ نعم ولا. الأداء؟ محترم، ولكن. الكلمات؟ لا تسألوا كيف يجِدُها. اللحن؟ إلى القلب بلا فرامل. النمط؟ أغنية شعبية لبنانية، مزاجها الإيقاعي لاتيني كوبي. التوزيع؟ كالعادة، ولكن.

صدرت أغنية «ما بتِنتَرَك وَحدَك» قبل أيام. لا يهم التاريخ، المهم هو التوقيت: الشوق في ذروته، من لديه تسجيل مقرصَن نشره و«ارتاح»، الأنظار متجهة إلى لطيفة… وإذ بالجديد يخرج من «قبّعة» كارول سماحة.

ألبوم كامل لا يحتاج سوى لمسات أخيرة، بعنوان مؤقّت هو I Love Studer A

توقيت مذهل الصواب والدلالات. يبدو أنها ميزة عند آل سماحة، إذا راجعنا افتتاحية جوزيف في العدد رقم واحد من «الأخبار». فإذا كان كلام لطيفة (المشكورة على ترطيب وجعنا وبعث الأمل) عن ألبومها المرتقب أكّد أن زياد أنجز شيئاً قبل الرحيل، فإن كارول (المشكورة، في المقابل، على تكتّمها) بمفاجأتها هذه أكدّت أننا لا نعرف كم وماذا أنجز العملاق قبل الوقوع. هذا لا يُفسِد الحماسة تجاه جديد لطيفة. بالعكس. كما يجُرُّ الأكلُ الأكلَ، والمالُ والمالَ، والفقرُ الفقرَ… كذلك يجُرُّ السمعُ السمعَ.

السحر الثلاثي عند زياد على ما تقول الأغنية (فيروز/ قال قايل): «إنتَ ما بيطلَع منَّك إلا كل شي حلو». فعلاً، لافِت هذا الأمر في إنتاج زياد الفنّي، إذ نسبة الأعمال الجميلة إلى تلك العادية قد يكون من الأعلى في العالم. يشبه شوبان بهذا. والأغنية الجديدة لا تشذّ عن القاعدة.

فيها السحر الثلاثي عند زياد: اللحن والكلام والتوزيع. التوزيع جديد، أما الباقي فقديم. سَمعتُ هذه الأغنية أول مرّة عام 2009، بتسجيل تجريبي مؤقّت (demo) بصوت لوريت حلو، زياد مرافقاً على البيانو. وبخلاف بعض الأعمال الأخرى، لم تُدرَج إطلاقاً في الحفلات. مع كل سمع إضافي للنسخة الجديدة، نجد صوت كارول سماحة مناسباً للأغنية. وسبب ذلك أداؤها الأنيق والمتقَن. لكن كارول قوية. ملامحها قوية.

شخصيّتها وحضورها أيضاً. هي امرأة قوية. وصوتها يعبّر عن هذه القوة لأنه طالعٌ منها، ونقصد نبرة الصوت تحديداً. صوت لوريت حلو في نبرته «خنّة» لطيفة، مثل حَولَة الحُسن في العيون. إنها النبرة المناسبة تماماً لمزاج «ما بتِنتَرَك وَحدَك».

فهذه الميزة، إن كانت طبيعية عند لوريت، فهي تصيب أي صوت بعد «حفلة شَلي»، لأسباب فيزيولوجية تتعلق بالسائل الآخر الذي ينتج من البكاء، بعد الدمع. الأغنية تأتي بلسان امرأة في موقع ضعف. هذا لا يعني أن لوريت حلو ضعيفة، لكنّ نبرة صوتها تصلح لأن تكون لسان حال المرأة التي في هذه الأغنية: عاتبة، خائفة، محبطة، متأسّفة… في الوقت الذي لا تناسب نبرتها، على سبيل التوضيح، أغنية مثل «تنذكر ما تنعاد»، حيث المرأة الحديدية تشنّ هجومها الكاسح مدعّماً بجيش قاهر في التوزيع الموسيقي.

نبرة صوت كارول ليست بعيدة كلياً من جو الأغنية، لا شك. لكنّ المؤثّرات الموضوعة على صوتها أتت بالاتجاه المعاكس، باستثناء الكلمات الأربع الأولى، في مطلع آخر إعادة للمذهب (refrain)، عندما تقول «ما بتِنتَرَك وَحدَك يوم (بتروح) »… يا عين!

لناحية الأداء الصوتي، إنها أجمل لحظة في الأغنية. هذا مقصود في عملية الهندسة الصوتية، لجعل آخر إعادة مختلفة، بهدف الإيحاء بأن الأغنية شارفت على النهاية. صحيح.

لكن تلك النبرة ليتها كانت معمَّمة على كل الأغنية. مفاضلة صوت فنان/ة على فنان/ة، في أغنية محددة ما، ليس انتقاداً له/لها ولا انتقاصاً من موهبته/ا. هذه مسألة شائعة ومشتركة بين الرجال والنساء وليس لها اسم. إنها من اختصاص الإحساس. هل يمكن تخيُّل أسترود جيلبرتو تغني I Feel Good؟ أو جايمس براون The Shadow of Your Smile؟ أو تشات بايكر Jump to It؟ والعياذ بالله!

هذه أمثلة نافرة، لا تنطبق على ما نتكلّم عنه، لكنها تساعد على إيضاح الصورة وإيصال الفكرة. لكل صوت مزاجه ومزاج أغنيات تناسبه. أي امرأة تستطيع أن تؤدّي الدورَين (الضعيفة والقوية) كأنها أكثر من مغنّية؟

لن نبحث بعيداً، المثال قريب وشديد الوضوح. من يستطيع أن يؤدّي، مثلاً، «مش قصة هاي» (مش فارقة معاي) و«لا والله» و«ما شاورت حالي» من جهة، ومن جهة ثانية، وأحياناً بفارق أغنية أو اثنتَين في نفس الألبوم، مثلاً، «شو بخاف» و«صباح ومسا» و«إيه في أمل»؟ عرف زياد ذلك، وعاصي أيضاً قبله، ولمزيد من الأمثلة راجعوا مسرحيات الأخوين رحباني، تمثيلاً وغناءً… هي فيروز، وهذا واحدٌ من أسباب فرادتها وعظمتها.

كلام واضح ومباشر و… حقيقي كلام «ما بتِنتَرَك وَحدَك» واضح، مباشَر وحقيقي. ما يلفت هو تكرار كلمة «مفتوح» التي تُقفَل عليها ثلاثة مقاطع، في الوقت الذي لا يخلو القاموس من عبارات يمكن أن تلبّي النصّ لناحية المعنى والقافية معاً. ربما هذا مقصود. زياد كان مولعاً بعلم النفس. لم يستطع فك شيفرات المرأة، بل وتراجع عنده احتمال الخرق مع الوقت (بحسب تعبيره: «مِن مَرا لَمَرا عم تِرجَع لَوَرا»).

لكن إنجازه الكبير هو أنه فكّ شيفرات الرجل من وجهة نظر المرأة، وهذه الأغنية مثال من عشرات. وربما كرّر «مفتوح» للتأكيد على أن السؤال سيبقى مفتوحاً… السؤال الذي فشل فرويد في الإجابة عنه بعد ثلاثين عاماً من دراسة علم النفس الأنثوي: ماذا تريد (النساء) بالضبط؟

أما علاقة الكلمة باللحن، موسيقياً، فاللافت هو الانسجام بينهما في التعبير عن «التلاعب» و«اللامبالاة» و«الازدراء» عند هذا الرجل (بتعرِف تِحكي وقادر تِبكي/ فيك تْتَلفن وْشي بيحَزِّن/ بتِقدُر تِرمي أسوء كلمة) عبر أربع قفزات خماسية البُعد نزولاً (لا بيمول—ري، صول—دو، فا—سي بيمول، مي بيمول—لا بيمول).

يحصل ذلك ثلاث مرات، قبل أن تستولي المرأة على سلاحه وتستخدمه ضدّه، في طلب أخير، في الكوبليه الأخير (كل شي بدّي وباقي عندي)، وهو المقطع الذي تبدو فيه بأقوى مواقعها في المعركة، نسبياً. أما حيث الكلام فيه حميمية، حنان، عتاب، حرارة ما، نوستالجيا، فغالباً ما تكون النوتات متقاربة، محتكّة ببعضها. هذا مقصود؟ لا يهم. المهم أنه واضح.

التوزيع الموسيقي النقطة الأهم والتي حصل جدال حولها هي التوزيع الموسيقي. ما يلي مساهمة في النقاش ليس حسماً له. كان شعور البعض أن التوزيع لا يشبه زياد، تحديداً من ناحية أنه متقشّف. شعورٌ، إن لم يكن دقيقاً، فهو مبرّر لأسباب عدة: أولاً، الأغنية، لو صدرت ضمن ألبوم كامل، فيه توزيعات أخرى بدسامات مختلفة (كما هي حال كل ألبومات زياد)، ما كان هذا الشعور ليكون بهذا الحضور.

ثانياً، من يعرف أعمال كارول سماحة السابقة، لديه في لا وَعيه جَوٌّ معيَّن (النمط السائد، كما وصفته هي في مقابلتها الأخيرة مع محطة LBC)، يجعله يربط تلقائياً صوتها بالنمط الذي اشتهرت به.

وربما أيضاً، قصَد زياد عدم تحميل الأغنية كثيراً (لناحية التوزيع)، كي لا تبدو شديدة النفور ضمن ريبرتوار كارول، فوضع الثقل في الخفاء (الشرح في النقطة الأخيرة من المقالة). ثالثاً، وهذه أبرز نقطة سلبية في العمل، هناك مشكلة جدية على مستوى الميكساج (مقدار حضور كل آلة نسبةً لدورها وأهميته).

علماً أننا قمنا بواجبنا في الاستماع إلى الأغنية على نظام صوتي عالي الجودة (رغم فقر الصوت من المصدر، وهنا نترجّى لطيفة ألا تهمل مسألة إصدار جديدها على وسيط مادي، CD ولما لا Vinyl)، فما بالكم في الاستماع على يوتيوب، وعبر الهاتف!

لكن المشكلة موجودة بكل الأحوال، وكيفية الاستماع إليها (هاتف، سيارة، سمّاعات، أنظمة صوتية،…) تخفّف من حدّتها أو تفاقمها. هذا الشق أنجِز في استوديو زياد، لكن لا نعلم مَن قام بالعمل. زياد (وهو بارع فوق العادة بهذه الحرفة، لا لشيء إلا لأنه المؤلّف ويعلم جيداً ما الذي يجب إظهاره وعلى حساب ماذا)؟

زياد بدأ العمل… وأكمله شخص آخر؟ زياد بدأ العمل وأكمله أحد آخر؟ زياد لا دخل له بالموضوع، إذ كانت حالته صحية قد تراجعت عندما وصل الإنتاج إلى هذه المرحلة؟ في شتى الأحوال، يمكن التأكيد بأنّ العمل لو حظيَ بميكساج متقَن، لكنّا أمام «توزيع آخر». إلى هذه الدرجة. فالبعض ظنّ، مثلاً، أن لا آلات نفخ، نحاسيات خاصةً، في التوزيع (باستثناء بعض الجمل المنفردة، وهنا أيضاً يوجد مشكلة «ماسترينغ»، إذ تتغيّر نبرة آلة النفخ، إذ تبدو ترومبت أو فلوغلهورن في البداية ثم تصبح أقرب إلى السوبرانو ساكس)، والبيانو يحتاج إلى تركيز وإشاحة السمع عن كل باقي الأصوات لالتقاط بعض جمله.

علماً أنه حاضرٌ طوال الوقت تقريباً (خصوصاً في إعادة اللازمة). المؤسف مثلاً، بالعودة إلى «النفخ»، أنّ هناك الفاصل ذاته في المكان ذاته عند الإعادات، لكن في المرة الأولى حضوره مقبول، وبالكاد مسموع لاحقاً («أكّوران» بخامةٍ تحمل بصمة زياد الخاصة، بعد «مش مسموح» في المذهب وتكراره، عند الدقيقة 0:46 و1:14 و2:58 و3:55، في التسجيل على يوتيوب. تُحسَم عشر ثوانٍ تقريباً إذا لجأتم إلى تسجيل منصات الستريمينغ).

«الصوت» الأكثر بروزاً هو صوت كارول سماحة والكورس، يليهما الجانب اللاتيني، أي الغيتار والإيقاعات (الكونغاس والبونغوس والغويرو، في حين الكلافِس — وغيره — بالكاد مسموع). الوتريات، وهي ممتازة لناحية الميكساج، ظاهرة عندما تنفرِد في اللازمة الموسيقية والفواصل وعند التسليم.

أمّا في الجمل المرافقة للغناء والمستقلة عنه (contre-chant) فمتراجعة قليلاً إلى الخلف (خيار مبرَّر)، وهنا بيت القصيد. الشغل الذي قام به زياد في كتابة الوتريات يفوق الوصف. للوهلة الأولى (والثانية والثالثة… والألف) لا يمكن للمرء أن يلاحظ كيفية تركيبها على مراحل الأغنية بين المذهب وإعاداته والكوبليهات (الأغصان)، أو إنْ كانت تتكرر أو لا، وكيف!

مهمة شبه مستحيلة لكل من يسمعها، باستثناء من شاركوا في تسجيلها (ليس الجميع!). فالتوزيع (بالمعنى غير الموسيقي للعبارة) فيه هندسة مقصودة، وتكرار نفس الوتريات حيث تتشابه الجمل اللحنية (المذهب وإعاداته من جهة، والكوبليهات من جهة) ليس بالقدر الذي تتوقعونه. هذا طبيعي. أي موزّع موسيقي كان ليكتب وتريات للمذهب، تتكرر عند كل إعادة. كذلك الأمر بالنسبة إلى الكوبليهات (إلا في حال كانت مختلفة من حيث اللحن، وهذا لا ينطبق على «ما بتِنتَرَك وحدَك»). هكذا يكون قد قام بواجبه المهني على أكمل وجه، وتقاضى أتعاباً محقة تماماً. أي موزّع كان ليفعل هذا، لكن ليس زياد (في هذه الأغنية كما في غيرها).

الوضع الصحي ازداد سوءاً أضِف، وهنا يبلغ التفاني مستوى شبه انتحاري، أن هذا الجهد المضني بُذِل في الوقت الذي، قبل الكبد، كان زياد يعاني من مشكلة في يده اليمنى، تلاها ظهور علامات صحية، شُخِّصَت على أنها قد تكون بداية باركينسون، وبدأ يخسر القدرة على استخدام يدَيه (اليمنى بدرجة أولى) بشكل طبيعي، بالأخص الاستعمالات الدقيقة مثل تدوين الموسيقى. لكن زياد يبقى زياد.

يستنزف روحه وجسده حتى آخر ذرة طاقة… حتى آخر رمق. يعلم أن ما لا تلتقطه الأذن يسمعه القلب ويفعل فعله بالإنسان، من جهة، كما يؤمن باستمرارية العمل من جهة أخرى، لأن قرار الضجر من عمل فنّي ما، يعود للعقل اللاواعي، الذي، طالما «لم يستوعب» العمل كاملاً، لن يسمح لنا بالضجر منه. لهذا السبب نسمع باخ اليوم. لهذا السبب ستسمع الأجيال زياد لقرون آتية.

يمكنكم التوقف عن القراءة هنا. فما يلي قد يكون متعباً قليلاً، لكن إن بذلتم بعض الجهد نكفل لكم المتعة. هذه محاولة لرسم خريطة الوتريات في توزيع أغنية كارول سماحة الجديدة، كما أبدعها زياد الرحباني. أولاً، لنذكِّر أن المذهب يتكوّن من فكرتَين موسيقيَّتَين، ثانيهما تعود في ختام الكوبليهات لتسليم المذهب مجدداً. هذا شكل كلاسيكي في تركيبة بعض الأغاني.

ثانياً، المذهب نسمعه أربع مرّات، والكوبليهات عددها ثلاثة. ثالثاً، سنضع جانباً اللازمة الموسيقية أو المقدِّمة (في البداية وبعد أول كوبليه)، إنها غاية في الجمال لكنها واضحة، تركيبتها تمهيدية، تحوي تلميحات إلى جمل موسيقية في لحن الكلام الذي سيأتي بعدها، لكنها، بخلافه (لحن الكلام)، تمرّ على النوتة الحسّاسة (سي) لسُلَّم أو نغمة الأغنية (دو مينور)، ما يخلق دفئاً مريحاً قبل الولوج إلى قلب الأغنية، ثم في قلبها. هذا تقسيم الأغنية: (لازمة) / مذهب افتتاحي / إعادة للمذهب / كوبليه أوّل / (لازمة) / كوبليه ثانٍ / مذهب بكلام جزئي / كوبليه ثالث / مذهب ختامي.

عدد الأقسام تسعة، إذا حذفنا اللازمة وتكرارها تصبح سبعة. الأقسام السبعة هذه تتكوّن من فكرتَين موسيقيَّتين، لناحية اللحن، ثانيهما مشترك بين المذهب والكوبليهات. بالتالي، يمكن مضاعفة تقسيم الأغنية، من دون اللوازم، إلى 14. كم جملة للوتريات كتب زياد وكيف ركّبها على الأقسام الـ14؟ كتب سبع جمل مختلفة، لنرقّمها من واحد إلى سبع (بالترتيب من حيث الظهور)، ولنعتمد الصفر للدلالة على غياب تام للوتريات من أحد الأقسام، فنحصل على الخريطة الآتية: — المذهب: القسم الأول: صفر… القسم الثاني: واحد. — إعادة المذهب: القسم الأول: اثنان… القسم الثاني: صفر. — الكوبليه الأول: القسم الأول: ثلاثة… القسم الثاني: أربعة. — الكوبليه الثاني: القسم الأول: خمسة… القسم الثاني: أربعة. — المذهب بكلام جزئي: القسم الأول: ستة… القسم الثاني: صفر. — الكوبليه الثالث: القسم الأول: ثلاثة… القسم الثاني: أربعة. — المذهب الختامي: القسم الأول: سبعة… القسم الثاني: واحد. نترك لكم تحليل تركيبة هذه الخريطة، من الزاوية التي تريدون. واستمتعوا بتطبيقها على الأغنية أثناء السمع. ما قرأتم تطلّب بعض التعب لإيضاح فكرة في أغنية شعبية من ميزات نمطها ألا يبدو متقناً لهذه الدرجة. هو تعبٌ متواضع نسبياً، بهدف إعطاء تعبٍ هائل حقه… لنستحقّه.

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

مشاركة المقال: