للمرة الأولى منذ عام 1996، فاقت احتياطات الذهب لدى المصارف المركزية على مستوى العالم حجم حيازاتها من سندات الخزانة الأميركية، حيث بلغت 4 تريليونات دولار أمريكي مقابل 3.8 تريليونات دولار. يمثل هذا التحول إعادة هيكلة جوهرية في سياسات إدارة الاحتياطات الدولية.
هذا التغير ليس مجرد تطور مالي، بل يحمل دلالات استراتيجية تشير إلى تصاعد القلق بشأن استقرار الاقتصاد الأميركي والدولار كعملة احتياط عالمية.
بعد انهيار نظام "بريتون وودز" في أوائل السبعينات، اتجهت الأنظار نحو الدولار الأميركي وسندات الخزانة كأدوات احتياط رئيسية. وساهمت عدة عوامل في ترسيخ هذا الوضع، بما في ذلك ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية في الثمانينات، وصعود نظام البترودولار الذي ربط تجارة النفط بالدولار، بالإضافة إلى عمق السوق الأميركية وسهولة تداول أدواتها المالية خلال العقد الأول من الألفية.
لكن هذه الهيمنة بدأت تتآكل تدريجياً مع تصاعد الأخطار الجيوسياسية والمالية، لا سيما منذ عام 2022، حيث بدأت المصارف المركزية في مختلف أنحاء العالم اتباع سياسة شراء الذهب بكثافة، كمصدر بديل وأكثر أماناً للاحتياط.
في عام 2022، سجلت المصارف المركزية مستوى قياسياً في مشترياتها من الذهب بلغ 1,136 طناً، في إشارة واضحة إلى فقدان الثقة المتزايد في سندات الخزانة الأميركية والأوراق المالية المقومة بالدولار. واستمر هذا التوجه في الأعوام اللاحقة (2023، 2024، و2025)، مما أدى إلى تجاوز احتياطات الذهب لدى المصارف المركزية حيازاتها من أدوات الدين الأميركية للمرة الأولى منذ أكثر من ربع قرن.
تشير البيانات الحديثة إلى تحول لافت في خريطة الاحتياطات العالمية، إذ تعمد العديد من الدول إلى تعزيز حيازاتها من الذهب على حساب السندات والأصول الدولارية. ووفقاً لأرقام حديثة، تتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول المالكة للذهب باحتياطي يبلغ 8,133.50 طناً، تقدر قيمته بنحو 1.11 تريليون دولار، باستخدام سعر 4200 دولار للأونصة. وتليها ألمانيا بـ 3,351.50 طناً (454.25 مليار دولار)، ثم إيطاليا وفرنسا باحتياطيات تتجاوز 2400 طن لكل منهما. واللافت أيضاً دخول قوى اقتصادية صاعدة مثل روسيا والصين بقوة إلى هذا السباق، حيث باتت كل منهما تمتلك أكثر من 2,200 طن من الذهب، في خطوة تعكس توجهاً استراتيجياً لفك الارتباط التدريجي بالدولار. كما تظهر دول مثل الهند، تركيا والسعودية في القائمة، مما يؤكد اتساع هذا التوجه عالمياً.
يعكس هذا التحول تنامي القلق من الأخطار المرتبطة بالاقتصاد الأميركي وديونه المتفاقمة، ويدفع المصارف المركزية إلى إعادة هيكلة احتياطاتها نحو الأصول المادية الصلبة، وعلى رأسها الذهب، كملاذ آمن وأكثر استقراراً في ظل نظام مالي دولي يشهد اضطرابات متزايدة.
يتزامن هذا التغير مع تصاعد الأخطار المرتبطة بالدين العام الأميركي، والذي تجاوز مستويات غير مسبوقة في السنوات الأخيرة. كما أثارت الاضطرابات الجيوسياسية، والعقوبات الاقتصادية، والتدخلات المالية من قبل الولايات المتحدة، مخاوف لدى العديد من الدول بشأن استخدام الدولار كسلاح سياسي.
وبالتالي، تتجه هذه الدول نحو تنويع احتياطاتها، والبحث عن أصول مادية صلبة لا تعتمد على التزامات حكومية أو تحتمل أخطاراً سوقية مرتفعة، مما جعل الذهب، كأصل غير سيادي وغير قابل للإفلاس، الخيار الأمثل.
تشير التقديرات إلى أن ما يقارب خُمس إجمالي الذهب المستخرج في تاريخ البشرية أصبح الآن في حيازة المصارف المركزية. هذا الرقم ليس مجرد إحصاء، بل يعكس مدى أهمية الذهب مجدداً كعنصر استراتيجي في السياسة النقدية العالمية.
إن تجاوز الذهب سندات الخزانة الأميركية في احتياطات البنوك المركزية لا يشكل مجرد تحرك تقني في الأسواق المالية، بل يمثل تحولًا هيكلياً في توازن القوى الاقتصادية. ففي عالم تتزايد فيه الشكوك حول استدامة النظام المالي العالمي القائم على الدولار، يبدو أن الذهب يعود إلى الواجهة كملاذ آمن ومخزن للقيمة لا يمكن تجاهله.
جو يرق، رئيس قسم الأسواق العالمية قي “cedra markets”
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار