في تصعيد يُعدّ الأخطر منذ عقود، لم تعد سياسة إدارة دونالد ترامب في أمريكا اللاتينية مقتصرة على ملف فنزويلا. شهدت المنطقة تحولاً استراتيجياً خطيراً خلال الأيام القليلة الماضية. فبينما بلغ الحشد العسكري الأميركي قبالة سواحل فنزويلا ذروته بهدف إسقاط النظام البوليفاري، وجهت واشنطن نيرانها السياسية والاقتصادية نحو كولومبيا، حليفها التاريخي.
يكشف هذا الاستهداف المزدوج والمتزامن لكاراكاس وبوغوتا، تحت ذريعة "الحرب على المخدرات"، عن عقيدة أميركية جديدة أكثر عدوانية تجاه الإقليم، وهي نسخة محدثة من منطق الهيمنة الإمبريالية، وتهدد بجر منطقة الأنديز إلى صراع واسع النطاق.
أوقف ترامب، بقرار مفاجئ، المساعدات عن كولومبيا، واصفاً رئيسها غوستافو بيترو بأنه "زعيم مخدرات غير شرعي"، في تحول أطاح بعقود من التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وبوغوتا، التي تلقت نحو 14 مليار دولار من المساعدات العسكرية الأميركية منذ بداية القرن الحالي. وكان بيترو، أول رئيس يساري في تاريخ كولومبيا، قد أثار استياء الولايات المتحدة في ملفات عدة، خاصة فيما يتعلق بالحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
لكن رد فعله على مقتل صياد كولومبي في إحدى الضربات البحرية الأميركية الأخيرة (التي استهدفت قارباً تابعاً لمنظمة «جيش التحرير الوطني اليسارية» الكولومبية) كان القشة التي قصمت ظهر البعير. بيترو، على عكس أسلافه، اتهم الولايات المتحدة علناً بارتكاب "جريمة قتل" وانتهاك لسيادة بلاده، ليرد ترامب بصلف، واصفاً الرئيس الكولومبي بأنه "زعيم مخدرات غير شرعي يشجع بقوة على الإنتاج الضخم للمخدرات"، معلناً قطع جميع المساعدات والإعانات الأميركية عن بوغوتا. والتهديد المباشر الذي تبع الإعلان كان الأخطر: "من الأفضل لبيترو أن يغلق حقول القتل هذه على الفور، أو ستغلقها الولايات المتحدة من أجله، ولن يتم ذلك بلطف".
وبدا رد الفعل هذا مبيتاً، إذ ألغت واشنطن في أيلول الماضي تصنيف بوغوتا كحليف في مكافحة المخدرات، للمرة الأولى منذ عام 1997. ويبدو أن ترامب، بتهديده بالتدخل المباشر الذي "لن يتم بلطف"، يكشف عن اتساع دائرة الاستهداف في أمريكا اللاتينية، لتتجاوز نيكولاس مادورو والنظام البوليفاري في فنزويلا.
يأتي ذلك في وقت يتحول فيه أكبر انتشار بحري أميركي في الكاريبي منذ غزو بنما عام 1989، بذريعة "مكافحة تهريب المخدرات"، إلى عملية نفسية وعسكرية واستخبارية تهدف مباشرة إلى "تغيير النظام" في كاراكاس، بعدما تخلت واشنطن عن كل غطاء دبلوماسي وتمويه قانوني في حملتها لإقناع مادورو بأن كلفة البقاء في السلطة ستكون باهظة، وأن خيار الرحيل هو الوحيد المتاح للنجاة.
فالحشد البحري، الذي يضم مدمرات وغواصات وطائرات مقاتلة، يرافقه استعراض قوة متعمد، إذ تم رصد قاذفات «B-52» الاستراتيجية وهي تحلق قبالة الساحل الفنزويلي، فيما أجهزة إرسالها واستقبالها قيد التشغيل للإعلان عن وجودها. كما انتشرت صور لسفن «شبح» تابعة للقوات الخاصة، ومقاطع فيديو لتدريبات على طائرات «بلاك هوك» و«ليتل بيرد» قبالة السواحل الفنزويلية.
ويبدو أن ترامب يريد الاستفادة من "العصا الغليظة" المرفوعة على فنزويلا لتأديب كل من تسول له نفسه التشويش على الهيمنة الأميركية المطلقة، خاصة في ظل حاجة موسكو الماسة إلى تسوية تنهي نزيفها في أوكرانيا، وانكفاء بكين، وعزلة طهران.
لكن خبراء يقولون إن إقدام الأميركيين على فتح جبهة مزدوجة ضد فنزويلا وكولومبيا يعد مقامرة بالغة الخطورة بأمن الإقليم برمته. فالدولتان تشتركان في حدود يبلغ طولها أكثر من 2200 كيلومتر، وهي واحدة من أكثر الحدود اضطراباً في العالم، وتنشط على جانبيها جماعات ثورية يسارية. لذا، فإن أي ضربة أميركية داخل فنزويلا من شأنها أن تثير فوضى يمكن أن تمتد بسهولة إلى الأراضي الكولومبية.
كما أن أي عمل عسكري أميركي في كولومبيا سيقابل برفض شعبي وسياسي عارم، يدفع بيترو إلى تحالف أوثق مع البوليفاريين في كاراكاس. ومن غير المستبعد أن تنتهي الأمور إلى سيناريوات كارثية شبيهة بما حدث في ليبيا والعراق وسوريا، خاصة أن الجيوش النظامية في كل من فنزويلا وكولومبيا ليست في وضع يسمح لها بمقارعة عدوان أميركي واسع النطاق، ما سيفتح الباب أمام دخول ملايين المسلحين في المنظمات الشعبية، في حروب عصابات وربما صراعات أهلية قد لا تنتهي قبل عقود طويلة.
والواقع أن "الحرب على الناركو" ليست سوى استنساخ مباشر لاستراتيجية "الحرب على الإرهاب"، التي طبقتها واشنطن طيلة الربع الأول من هذا القرن، لتبرير غزو وتدمير دول ذات سيادة من مثل أفغانستان والعراق، ولاحقاً التدخل لتفكيك ليبيا وسوريا. وكما الأمر في الشرق الأوسط عندما وظفت شعارات "نشر الديموقراطية" ونزع "أسلحة الدمار الشامل" لتحقيق أهداف الهيمنة الأميركية وإعادة رسم الخرائط الجيوسياسية وتأمين السيطرة على موارد الطاقة، تستخدم "الحرب على المخدرات" اليوم كذريعة لإسقاط الأنظمة المستقلة في أمريكا اللاتينية والاستيلاء على مواردها.