عنب بلدي – كريستينا الشماس
إذا كنت من مدينة دمشق، فمن المؤكد أنك قد سُئلت مرة واحدة على الأقل عما إذا كنت من داخل السور أو خارجه. قد تبدو هذه العبارة مبهمة للبعض، لكنها تحمل في طياتها تاريخًا عريقًا وذاكرة مجتمعية غنية.
لا يزال هذا السؤال شائعًا في أحاديث الدمشقيين حتى الآن، ولكنه لم يعد يحمل نفس المعنى الذي كان يحمله في الماضي. فعبارة "من جوّا السور" كانت تحدد موقع العائلة في خريطة الانتماء الدمشقي ومدى أصالتها، ولكنها اليوم أقرب إلى نكتة محلية أو ذكرى يرويها الأجداد.
تختزل عبارة "من جوّا السور أو من برّا" تاريخًا من التوسع العمراني والانتقال الاجتماعي بين المدينة القديمة المحصنة بأسوارها والأحياء التي نمت خارجها. ومع مرور الزمن، بقيت الكلمات، لكن دلالاتها تراجعت أمام تحولات الناس وحياتهم.
بين السور والذاكرة
في الماضي، كان السور الذي يحيط بالمدينة القديمة في دمشق يشكل حدًا دفاعيًا يفصل الداخل عن الخارج، ويميز المدينة المسوّرة عن أراضيها الزراعية والطرق المؤدية إلى الغوطة. ومع مرور الوقت، أصبح السور رمزًا ثقافيًا أكثر منه أثرًا معماريًا. فـ"جوّا السور" لم تعد تعني فقط العيش داخل حدود المدينة القديمة، بل الانتماء إلى العائلات التي ولدت فيها جيلًا بعد جيل.
هاغوب أروشان (66 عامًا)، وهو من أصول أرمنية وعاش طيلة حياته في حي باب توما، تحدث لعنب بلدي قائلًا إنه عاش مع عائلات دمشقية عريقة، وكانت عبارة "جوّا السور" تشير إلى العائلات الدمشقية الأصيلة. وأوضح هاغوب أنه بمجرد ذكر اسم عائلتك وكونك من داخل السور، يتم التعرف تلقائيًا على تاريخ العائلة وجذورها.
وأضاف هاغوب: "لطالما كنت شاهدًا على جلسات دمشقية يتنافس فيها الناس على رقم خانة العائلة. فإذا كنت دمشقيًا ومن داخل السور وكان رقم خانتك في الهوية الشخصية أقرب للرقم (1)، فهذا يعني أنك دمشقي أصيل أبًا عن جد".
وأوضح عماد نجم، من حي القيمرية، أن الفارق بين "جوّا وبرّا السور" لم يكن ماديًا بقدر ما هو شعور بالانتماء. وأشار عماد إلى أن الدمشقيين الذين من داخل السور كانوا يشعرون أنهم سكان دمشق الأصليين، بينما كان يُنظر إلى كل من هو خارج السور كوافد جديد على المنطقة.
انتماء متغير بين الأجيال
في النصف الثاني من القرن العشرين، ومع توسع دمشق خارج أسوارها القديمة نحو المهاجرين والبرزة والميدان، بدأ مفهوم "برّا السور" يأخذ شكلًا جديدًا. فالعديد من العائلات التي خرجت من المدينة القديمة استقرت في أحياء حديثة، لكنها ظلت تحتفظ برمزية "البيت القديم".
خالد جمعة، وهو شاب يعيش في حي باب شرقي، اعتبر أن هذه العبارة باتت تستخدم اليوم بروح الدعابة لا التمييز. وأضاف خالد أن بعض كبار السن ما زالوا يتعاملون مع الموضوع من باب الفخر بالمكان، وأن هناك أشخاصًا يعتبرون أن العائلات من "جوّا السور" تمتلك تاريخًا أطول، ولكن الجيل الجديد ينظر إلى القصة من ناحية "حكايات التراث".
ومن وجهة نظر عماد نجم، يرى أن استخدام المصطلح تغير تمامًا خلال الفترة الأخيرة. وقال: "اعتدنا سماعها كثيرًا عندما كنا صغارًا، وكان الكبار يعتبرون أهل (جوّا السور) مميزين، لكن اليوم ما يجمع عائلات (برا وجوا السور) ذات الحياة والهموم التي يعيشها كل سوري".
الذاكرة تتبدل.. والهوية تبقى
ارتبطت عبارة "جوّا السور" خلال العقود الماضية بسمعة اجتماعية محددة. وفي بعض العائلات، كان يُنظر إلى الزواج من "برّا السور" بتحفّظ، باعتبار أن الدمشقي الأصيل هو من داخل الأسوار. إلا أن هذا التقسيم لم يعد يحمل الوزن نفسه بعد التغيرات الديموغرافية والحروب والنزوح.
ماري شاهين، التي تعيش في حي القصاع، ترى أن قصة "جوّا السور وبرّا السور" أصبحت جزءًا من القصص التي يرويها الكبار، أكثر من كونها تعبيرًا عن واقع اجتماعي. وحول رأيها بتشبث بعض العائلات بالنسب من "داخل السور"، أجابت مبتسمة: "باتت من قصص زمان، فاليوم إذا سألوك من أين، تجيبهم فقط من الشام، فلم يعد أحد يسأل أكثر من ذلك".
واعتبرت ماري أن العبارة اليوم لم تعد تقال لتفرّق، بل لتذكّر بتاريخ المدينة، وتُستعاد كجزء من الحنين الدمشقي.
ومن وجهة نظر هاغوب أروشان، تحولت عبارة "جوّا السور" من علامة طبقية إلى ذاكرة لغوية، ومن معيار للانتماء إلى إشارة تراثية تجمع الدمشقيين أكثر مما تفرقهم. ويرى هاغوب أن ما تبقى من الأسوار اليوم ليس الحجارة القديمة، بل حنين الناس إلى هوية ظلت رغم التبدل قائمة في الوجدان.
سور دمشق وأبوابها
سور دمشق القديم وأبوابها هو أحد أبرز شواهد العمران والتحصين في تاريخ المدينة. فبالرغم من أن دمشق من أقدم مدن الأرض، فقد أُحيطت في العهد الروماني بسور حجري عريض مستطيل الشكل، بُني بالأحجار الضخمة وزُوّد بعدة أبواب (سبعة في الأصل) كجزء من نظام دفاعي وحضري. وهذه الأبواب هي: باب الفراديس، باب الجنيق، باب توما، باب شرقي، باب كيسان، باب الصغير، باب الجابية، وبعضها لا يزال في موضعه الأصلي وبعضها الآخر أُزيل.
هذا السور كان يفصل "المدينة المسوّرة" عن محيطها الزراعي والطرق المؤدية إلى الغوطة، وكان مدخله يتم عبر أبواب رئيسة، مثل الباب الشرقي (المعروف أيضًا بـ"باب الشمس"). ومع الزمن تغيرت وظيفة السور من حماية عسكرية إلى حدود معمارية تشيد بها المدينة وتعبر عن تاريخها. ففي العهد الإسلامي والأيوبي والمملوكي والعثماني جرت عليه ترميمات وتعديلات، وباتت بعض أجزائه تستخدم كمكون عمراني داخل نسيج المدينة.
سور دمشق ليس مجرد جدار حجري، بل مرآة تعكس مراحل تطور دمشق من مدينة محصنة إلى مدينة مفتوحة، ومن مركز حضري مغلق إلى نسيج ممتد خارج الأسوار.