الإثنين, 3 نوفمبر 2025 05:19 AM

سوريا: قضية اختفاء النساء تتصاعد.. أين تكمن المشكلة وكيف نواجهها؟

سوريا: قضية اختفاء النساء تتصاعد.. أين تكمن المشكلة وكيف نواجهها؟

عادت قضية اختفاء النساء في سوريا لتتصدر المشهد مجددًا، بعد ظهور معطيات جديدة حول قضية نغم عيسى، التي أثارت جدلاً واسعًا في شهر شباط الماضي، إثر اتهامات للأمن السوري بالتورط في قتلها، قبل أن يتبين أنها على قيد الحياة في لبنان. تزامن ذلك مع حملة إلكترونية أطلقها مثقفون وناشطون سوريون للضغط على السلطات من أجل تحقيق تقدم في هذا الملف الشائك.

وكما هو معتاد، انقسم السوريون بين من استغل قضية نغم للنفي المطلق لملف الاختفاء، وبين من أصر على روايته الخاصة دون أي مراجعة أو تغيير في طريقة التعامل مع القضية. وفي ظل غياب جهة سورية محلية محايدة وموثوقة، يصبح من الضروري الاعتماد على تقارير المنظمات الدولية الأكثر مصداقية، أو على الأقل الأكثر قبولًا لدى الأطراف المختلفة في المجتمع السوري، لتكوين صورة موضوعية عن حجم المشكلة.

تشير منظمة العفو الدولية إلى اختفاء نحو 36 سيدة على يد مجهولين خلال العام الحالي، عاد منهن 14 إلى عائلاتهن. بينما ذكرت وكالة "رويترز" 33 حالة مشابهة، عاد نصفهن تقريبًا. ما يعني أن حوالي 24 امرأة ما زلن في عداد المفقودات، وأغلبهن من الطائفة العلوية. ورغم عدم تحديد هوية الخاطفين بدقة، إلا أن وجود ظاهرة حقيقية تستدعي المتابعة والاهتمام أمر لا يمكن إنكاره.

لكن ما سبب هذا التباين الكبير في التعامل مع القضية؟ علم النفس الاجتماعي يوضح أن الإنسان يتفاعل عاطفيًا مع قصة فردية حية أكثر من استجابته للأرقام المجردة، حتى لو كانت كبيرة. فحكاية فتاة مختفية، بتفاصيلها وصورها وأسمائها، تثير المشاعر أكثر من رقم صامت كـ40 أو 50 مختفية. إلا أن المشكلة في الحالة السورية تكمن في أن بعض القصص التي شغلت الرأي العام تبين لاحقًا أنها مشوبة بالخيال والمبالغة، كما في قضيتي "ميرا" و"أحمد".

حالات الاختفاء حقيقية، لكن الإصرار على نسج روايات غريبة حولها أضعف مصداقيتها. كذلك، فإن التسرع في اتهام الأمن السوري في قضية نغم، وما رافقه من تسييس وصل إلى بعض الفضائيات العربية، أفقد الملف حياديته. فقضية واحدة مشكوك فيها تكفي لتقويض الثقة بعشرات القضايا الأخرى، حتى الموثقة منها. فالدفاع عن الضحايا لا يعني فرض رواية واحدة، بل الحفاظ على مساحة للشك المشروع والاعتراف بالجهل بالمصير إلى حين ظهور دليل. وعدم قدرة المتبنين لهذه القضايا على الحفاظ على هذه المساحة أضعف مصداقية القضية.

المشكلة الأخرى هي نزعة الكثير من السوريين، من مختلف الأطراف، للحديث عن قضاياهم الخاصة وكأنها الوحيدة الجديرة بالاهتمام، وكأن البلد لا يتسع إلا لجرح واحد. من الطبيعي أن تهتم فئات معينة بقضايا أقرب إليها، لكن المأزق يظهر حين يتحول هذا الاهتمام إلى حصرية تقصي القضايا الأخرى. الاهتمام بملف معين لا يعني إلغاء أهمية الملفات الأخرى، بل يذكر بأن المأساة السورية مركبة، وأن أي عدالة مستقبلية لا يمكن أن تختزلها سردية واحدة أو جرح واحد.

وهنا تظهر معضلة أخرى في التفكير السوري الراهن، فعندما تذكر قضية المختفيات الحاليات، يسارع البعض إلى استدعاء ملف المختفيات في عهد الأسد، وكأن النقاش لا يمكن أن يفتح إلا بالمقارنة. الاهتمام بقضية راهنة لا يعني نسيان ما قبلها، بل يعكس سخونة اللحظة وقدرة الناس على التفاعل مع ما هو حاضر أكثر، لكن هذا الميل للمفاضلة بين الجراح يحول كل نقاش آني إلى اتهام ضمني بالتقصير في قضايا أخرى، بدل أن يفهم كجزء من تراكم الذاكرة الجماعية.

أما المشكلة الثالثة فتتمثل في محاولات بعض الأصوات رسم واقع لا يتناسب مع ما نعيشه فعليًا، من خلال استدعاء مقارنات سطحية بين الحاضر والماضي. فحين يصور اختفاء 24 امرأة اليوم على أنه مأساة تفوق اختفاء أكثر من ثمانية آلاف ومقتل 22 ألف امرأة على يد النظام السابق، نكون أمام تزييف واضح للواقع، يحول المأساة إلى أداة لتلميع عهد بائد ارتكب جرائم ممنهجة.

لقد انتهى النظام السابق، وليس المطلوب تكرار إدانته في كل مرة نناقش فيها قضية جديدة، بل يكفي ألا نعيد إنتاج صورته أو نستخدم المآسي الراهنة لتجميله. في النهاية، تبقى قضية اختفاء النساء في سوريا واقعًا مؤلمًا لا يمكن إنكاره أو التخفيف من ألمه، لكن الدفاع عنها لا يكون عبر التسييس أو المقارنات، بل عبر تبنيها كقضية إنسانية خالصة تعالج بعيدًا عن أي إسقاطات. فالسلطة الحالية تتحمل المسؤولية المباشرة عن حماية الأمن وضمان سلامة المواطنين، ويجب مساءلتها حين يثبت تواطؤ أي من أجهزتها أو تقصيرها في كشف الحقيقة. إن الاعتراف بوجود هذه الانتهاكات ومواجهتها هو الخطوة الأولى لبناء مجتمع أكثر عدلًا، يتعلم من ماضيه دون أن يعيد إنتاجه.

مشاركة المقال: