الإثنين, 3 نوفمبر 2025 04:18 PM

فيلم "مملكة القصب": طفولة عراقية في زمن صدام حسين وحصار أمريكا تتحول إلى أوديسة سينمائية

فيلم "مملكة القصب": طفولة عراقية في زمن صدام حسين وحصار أمريكا تتحول إلى أوديسة سينمائية

في زمن حكم صدام حسين والعقوبات الاقتصادية، يغوص فيلم «مملكة القصب» للمخرج حسن هادي في تفاصيل الحياة اليومية للعراقيين، حيث تصبح الكعكة رمزاً للولاء القسري.

يروي الفيلم قصة طفلة تُدعى لميعة، تُكلّف بصنع «كعكة الرئيس» وسط ظروف الحصار والجوع، لتتحول مهمتها إلى صراع بين البراءة والخوف. يعيد الفيلم كشف وجوه السلطة، حيث يصبح الفرح أمراً مفروضاً، والنجاة فناً من فنون المقاومة.

عرض فيلم «مملكة القصب» أو «كعكة الرئيس» (The President’s Cake) للمرة الأولى في «أسبوعي المخرجين» في «مهرجان كان السينمائي» وفاز بجائزة الجمهور، كما مُنح جائزة الكاميرا الذهبية المرموقة لأفضل فيلم أول. يعتبر هذا إنجازاً كبيراً لفيلم روائي أول، خاصةً وأنه أول فيلم يمثل العراق في تاريخ المهرجان.

الفيلم مرشح لجوائز الأوسكار، ويستمد قصته من تجربة المخرج حسن هادي الشخصية، خصوصاً طقوس الاحتفال بعيد ميلاد صدام حسين الإلزامية. يتناول المخرج هذا الموقف بروح الدعابة المتشائمة، حيث كعكة تُصنع تحت التهديد، وطفلة تتحمل مسؤولية وطنية، ومجتمع يُجبر على الاحتفال بينما ينهار من الداخل.

تدور أحداث الفيلم حول استعدادات العراقيين للاحتفال بعيد ميلاد صدام حسين الثالث والخمسين، حيث يُطلب من كل فصل في كل مدرسة تقديم كعكة احتفالية.

في إحدى المدارس الابتدائية في الأهوار جنوب العراق، تقع القرعة على لميعة (بنين أحمد نايف)، وهي فتاة في التاسعة من عمرها، لتكون مسؤولة عن صنع الكعكة. هذه المهمة تبدو تافهة في أماكن أخرى، لكنها تصبح مسألة حياة أو موت في بلد يعاني من الحصار والحرب والندرة والمشكلات السياسية والاجتماعية.

تبدأ لميعة رحلتها إلى المدينة مع جدتها بيبي (وحيدة ثابت) للحصول على المكونات الأربعة: بيض، ودقيق، وسكر، وزيت. تصادف لميعة زميلها سعيد (ساجد محمد قاسم)، المكلف بإحضار الفاكهة. يختفي الكبار، ويبقى الأطفال وحدهم في مواجهة العبث، ويضطرون إلى الاعتماد على براعتهم الطفولية لتنفيذ المهمة.

«مملكة القصب» هو أول فيلم عراقي يُصوَّر داخل البلاد ويتناول بشكل مباشر عام 1990، حين كان صدام حسين يحكم بقبضة حديدية، والعراق يرزح تحت وطأة عقوبات دولية خانقة أدت إلى فقر مدقع ونقص حاد في المواد الغذائية.

في تلك اللحظة التاريخية، وبينما كانت الطائرات الأميركية تقصف البلاد في حرب الخليج الثانية، يقدم حسن هادي أوديسة صغيرة تحمل كل ملامح الرعب الكبير. قصة تبدو سخيفة، لكنها مبنية على وقائع مرعبة، إذ يصبح الامتثال شكلاً من أشكال النجاة، والطفولة ساحة مواجهة مع الغباء السلطوي.

بين البراءة والصداقة الإنسانية، تتناوب الابتسامات وتلميحات الخطر لدى المشاهد، بينما تخوض لميعة وسعيد مغامرات أشبه بمغامرات ديكنزية للحصول على المكونات، تارة عبر التحايل وطوراً من التبادل وحتى اللجوء إلى السرقات البسيطة.

الفيلم متجذر بعمق في تاريخ البلاد اليومي، من المدارس إلى الأسواق الصغيرة الكثيرة، والشوارع المرصوفة بالحصى، وسيارات الأجرة المتهالكة، والمنازل المبنية من القماش والطوب اللبن والقصب، إلى تحليق الطائرات الصاخبة والمخيفة. يتحكم المخرج بالكاميرا وتوجيه ممثليه، وجميعهم تقريباً من غير المحترفين، الذين يبدعون بمهارة في خلق إنسانية نابضة بالحياة وحادة.

يحمل الفيلم خشونة بصرية زاهية الألوان، ويجمع بين جمالية حالمة ولقطات تبدو كأنها مأخوذة من فيلم وثائقي، ما يمنحه خشونةً خاصة في مشاهد المدينة.

التأنق الأسلوبي لا يخفف من حدة الفيلم السياسية، بل يضاعفها، فالعنف والخوف يظلان حاضرين في كل لقطة.

يبدأ حسن هادي مسيرته بفيلم يبدو أنه صُنع بأيدٍ عارية، وبمشاعر خام. اللافت أنّ فيلمه ليس مجرد رصد للحياة اليومية القاسية للشعب العراقي، بل هو مديح للمغامرة الأخوية والصداقة والفقد. يستخدم المخرج الحذف والاستطراد، وتشويقاً معيناً، ومشاهد مطوّلة ليتذوق المشاهد متعة الحكاية، جامعاً بين الواقعية والغنائية والكوميديا الاجتماعية والسياسية والعاطفية الساخرة، والدراما.

يسخر الفيلم أيضاً من الأمراض المتفشية في البلاد، جمود الشرطة، وإحباط وفساد بعض الرجال، والفقر المستشري. لا يقع المخرج في إطار الإدانة الاجتماعية، بل يُصوّر الحياة بأقصى قدر من الحميمية، ويتسلل إلى شقوق ذلك الوجود اليومي.

رغم وجود بعض المشاهد المصطنعة والتقلبات المتوقعة في الحبكة، إلا أن هذا أمر مُغتفر، لأن وراءه حقيقة. أشجع ما في «مملكة القصب» أنه يستهدف الجميع: نظام صدام، والأمم المتحدة، والغرب، والكبار الذين يصمتون خوفاً، والمجتمع الفاسد. في فيلمه، لا يوجد أناس طيبون، هناك ناجون، ومتواطئون بدافع الضرورة، ومعلمون يتبعون الأوامر لأنهم أيضاً خائفون.

يُوظّف الفيلم نقاط قوته على أكمل وجه، لكنه يُبالغ في حدّته بعض الشيء، مُحمّلاً كل مشهد بزخم زائد، مُفوّتاً فرصة تطبيق مبدأ «الأقلّ هو الأكثر».

في النهاية، تبقى صورة لميعة وهي تحمل كيساً من البيض كما لو أنها تحمل الديناميت عالقة في الذهن، حيث كل خطوة تخطوها تبدو كقنبلة موقوتة، وكل نظرة من شخص بالغ هي خيانة محتملة. لكنها تواصل مسارها، لأنه عندما تكون في التاسعة من عمرك ويطلب منك العالم أشياء لا يستطيع الكبار فعلها، كل ما يمكنك فعله هو الاستمرار في المشي، والدعاء ألا تنكسر بيضة.

مشاركة المقال: