عقدت ثلاث منظمات مجتمع مدني سورية مؤتمرًا في دمشق يوم الأحد 2 تشرين الثاني، تحت عنوان "من الأنقاض إلى المسؤولية: حقوق الإنسان والأعمال التجارية ومستقبل سوريا". ركز المؤتمر على ضرورة أن تقوم مرحلة إعادة الإعمار في سوريا وبناء الاقتصاد على أساس احترام حقوق الإنسان ومبادئ العدالة والمساءلة، وذلك لضمان عدم تكرار انتهاكات النظام السابق.
المؤتمر، الذي حضرته عنب بلدي، نظمه كل من "البرنامج السوري للتطوير القانوني" و"جمعية الأعمال السورية العالمية" و"سيريا ريبورت". وقد جمع المؤتمر ممثلين عن الوزارات ومنظمات المجتمع المدني وقطاع الأعمال، بالإضافة إلى عدد من مؤسسات الأمم المتحدة والدول المانحة، لمناقشة كيفية بناء رؤية مشتركة لمستقبل أكثر استدامة ومسؤولية.
التنمية وحقوق الإنسان: علاقة لا تنفصم
أكد سعد بارود، مدير إدارة المنظمات والمؤتمرات الدولية في وزارة الخارجية السورية، على الترابط الوثيق بين التنمية وحقوق الإنسان، مشيرًا إلى أن الثورة السورية التي انطلقت عام 2011 رفعت شعارات قائمة على الكرامة الإنسانية ووحدة الشعب السوري، ما يجعل الحديث عن حقوق الإنسان في سوريا تعبيرًا عن التزام ثوري نابع من احتياجات الشعب السوري ذاته.
وأضاف بارود أن إعادة الإعمار في سوريا "لا تبنى بالنيات الحسنة فقط"، بل تتطلب سياسات عامة واضحة وأطرًا قانونية وتنظيمية تضمن التوازن بين حرية الفرد وحماية حقوق الإنسان. وشدد على ضرورة الالتزام بعدة مبادئ أساسية، أبرزها أن إعادة الإعمار ليست مجرد عملية عمرانية، بل هي عملية من صميم العدالة الانتقالية، موضحًا أنه يمكن بناء المباني في فترة وجيزة، لكن إعادة بناء الثقة واستعادة الحقوق تحتاج إلى وقت أطول بكثير.
كما أشار إلى أن ملف حقوق السكن والممتلكات يشكل محورًا جوهريًا ضمن عملية إعادة الإعمار والتخطيط الحضري، باعتباره السبيل لتصحيح ما جرى من مصادرة للأملاك وتهجير قسري وتغييب لعدد كبير من السوريين خلال سنوات الثورة وما قبلها. ولفت إلى أن التجارب الدولية في ظروف مشابهة لما مرت به سوريا أثبتت أن التنمية الاقتصادية المستدامة تقوم على ثلاثة أركان رئيسة: الحوكمة الرشيدة، والقطاع الخاص المسؤول، والمجتمع المدني الفاعل.
وبين أن المجتمع المدني السوري لعب دورًا رائدًا خلال سنوات الثورة في المطالبة بحقوق الإنسان ومحاسبة المجرمين وملاحقة مرتكبي الانتهاكات، وهو اليوم يعيد تحديد أدواره وفق مصفوفة أولويات جديدة، مؤكدًا أن سرعة تأقلمه مع المتغيرات تمثل سمة مميزة له، ومشددًا على أن أي تنمية لا يمكن أن تكون على حساب الإنسان.
منع تكرار الانتهاكات: مسؤولية مشتركة
أوضحت سنا كيخيا، المديرة التنفيذية في "البرنامج السوري للتطوير القانوني"، أن الصراع المأساوي والطويل في سوريا لم يكن مجرد كارثة سياسية أو قمع عسكري، بل مثّل فشلًا عميقًا في المسؤولية المؤسساتية، وتجسيدًا واضحًا لتورط قطاعات اقتصادية وتجارية في الانتهاكات والفظائع التي شهدتها البلاد خلال السنوات الماضية.
وأضافت أن الحرب التي استمرت 14 عامًا، بعد عقود من "الدكتاتورية الأسدية"، شهدت انخراط قطاعات واسعة مثل البناء والعقارات والمالية والاتصالات والصناعة في آلة القمع، إذ لم تكتفِ بعض الشركات بالعمل تحت سلطة النظام، بل استفادت بشكل مباشر من انتهاكات حقوق الإنسان، من خلال الاستيلاء الممنهج على ممتلكات المواطنين والمواطنات الذين تعرضوا للاعتقال أو التهجير القسري. وأشارت إلى أن قطاع الاتصالات والتكنولوجيا جُنّد بدوره في خدمة أجهزة المراقبة التي استخدمت ضد ناشطين وناشطات سوريين، وتحولت خدماته إلى أدوات للإرهاب الدولي.
وأكدت كيخيا أن عمليات إعادة الإعمار التي رُوّج لها في بعض المراحل، لم تكن سوى غطاء لتثبيت المصادرات غير المشروعة للأملاك. كما ذكرت أن شركات أجنبية ومحلية تواطأت في تطوير الترسانة الكيماوية للنظام، والتي استخدمت ضد المدنيين، مؤكدة أنه لولا دعم هذه الشركات لما تمكن النظام من تطوير واستخدام الأسلحة الكيماوية.
وأشارت إلى أن هذا التورط جاء في ظل غياب تشريعات واضحة وقابلة للتنفيذ، ما أتاح للنخب المقربة من النظام السابق تكديس الثروات والإفلات من المساءلة، حتى بات العمل التجاري في سوريا غير قابل للفصل عن منظومة القمع والسيطرة السياسية. وشددت على أنه لا يمكن اعتبار أي نشاط اقتصادي استفاد من انتهاكات حقوق الإنسان عملًا شرعيًا في "سوريا الجديدة"، لأن مكاسبه بنيت على معاناة السوريين.
وحول احتمالية تكرار هذه الانتهاكات، قالت إن الأمر قد يتكرر في حال غياب الأطر القانونية السليمة وضمانات المساءلة والحقوق، مضيفة، "نحن كسوريين في سوريا الجديدة لن نسمح بحدوث ذلك مجددًا". وأكدت أن إعادة بناء سوريا لا تقتصر على الهياكل المادية، بل تتطلب إعادة تأسيس الإطارين الاقتصادي والقانوني على أسس جديدة وجذرية، مشددة على ضرورة أن تكون المرحلة المقبلة من التنمية والاستثمار قائمة على مبدأ "لا ضرر ولا ضرار"، أي أن النمو الاقتصادي لا يمكن أن يكون على حساب حقوق الإنسان.
وأوضحت أن مهمة المؤتمر تتمثل في التركيز على المساءلة عن الماضي، وضمان التعويض العادل للضحايا، والانتقال من مرحلة الإنقاذ إلى المسؤولية والمشاركة الفاعلة، منوهة إلى أن الهدف ليس معاداة الأعمال التجارية، بل دعم الأعمال المسؤولة التي تحترم حقوق الإنسان. واعتبرت أن صوت السوريين يجب أن يكون واضحًا وثابتًا في المطالبة بمحاسبة من تورط في الانتهاكات، وضمان أن يكون القطاع التجاري شريكًا مسؤولًا في مسار العدالة والتعافي، لا جزءًا من منظومة القمع مجددًا.
إعادة الإعمار: ليست مجرد تجارة
أكد ناصر يوسف، عضو مجلس إدارة "جمعية الأعمال السورية العالمية"، أن حقوق الإنسان تمثل ركيزة أساسية ليس فقط في مرحلة إعادة الإعمار، بل في بناء الاقتصاد الحديث. وأشار إلى أنه لا يمكن لأي دولة في العالم أن تنخرط في علاقات اقتصادية متكاملة مع الدول الغربية والديمقراطية، دون أن تكون لديها سياسات واضحة تحترم حقوق الإنسان، وتلتزم بالتعامل المهني والسليم مع البيئة وحقوق المرأة والطفل ضمن منظومة شاملة لحقوق الإنسان.
وأوضح يوسف أن إعادة الإعمار في سوريا ليست مجرد قضية سياسية أو سكانية، بل هي مشاريع اقتصادية بامتياز، تخضع لمعادلات الربح والخسارة في اتخاذ القرار، إذ ستشارك فيها الدولة ودول داعمة، لكن التنفيذ الفعلي سيكون عبر شركات ربحية، وعلى هذه الشركات أن تراعي النتائج الإنسانية والاجتماعية لأعمالها، لا أن تقتصر اهتماماتها على العوائد المالية، لأن تأثيراتها على المجتمع المحلي قد تكون سلبية أو إيجابية بحسب نهجها.
وأشار إلى أن المرحلة الراهنة تشهد فضاء واسعًا لإعادة تنظيم نقابات العمال والنقابات المهنية، معتبرًا أن الأمر يعتمد على كيفية مبادرة العاملين وأصحاب المهن إلى إعادة تنظيم أنفسهم ووضع خطط واضحة لأهدافهم. وأضاف أن البيئة الحالية، التي تتسم بمساحة أكبر من الحرية، تتيح لهم فرصة المطالبة بحقوقهم من جديد، مؤكدًا أنه لا ينبغي انتظار الشركات أو أصحاب العمل لمنح الحقوق تلقائيًا، بل يجب السعي إليها والمطالبة بها، رغم أن القوانين تفرض العدالة على جميع الأطراف.
من جهته، قال أيمن المولوي، رئيس غرفة صناعة دمشق وريفها، إن العدالة وحقوق الإنسان قضية مقدسة، مشيرًا إلى أهمية عقد مثل هذه المؤتمرات لتسليط الضوء على الانتهاكات التي وقعت خلال فترة حكم النظام السابق، والتي تركت أثرًا سلبيًا عميقًا على العمال وعلى الشعب السوري ككل. وأضاف المولوي أن التجار والمستثمرين تلقوا تنبيهًا بضرورة العمل ضمن إطار العدالة، والتأكد من أن المشاريع التي ينفذونها قائمة على أسس قانونية وأخلاقية، وأن الأراضي المستخدمة فيها ليست مغتصبة أو انتزعت بغير وجه حق.
كما شدد على أهمية الالتزام بمبادئ العدالة في ما يتعلق بحقوق العمال وحماية البيئة، منوهًا أن أي تجاوزات في هذه المجالات ستكون محل محاسبة، سواء من قبل الدولة السورية أو من قبل دول أخرى تطبّق قوانين صارمة لمساءلة من يثبت تورطه في ممارسات غير قانونية. وأشار المولوي إلى أن بعض رجال الأعمال الذين كانوا محسوبين على النظام السابق، استفادوا من امتيازات خاصة، مبينًا أن غرفة صناعة دمشق وريفها ليست جهة قضائية لمحاسبتهم، لكنها مستعدة لتقديم أي معلومات أو بيانات تُطلب منها في إطار تحقيقات تجري بموجب قانون العدالة.
كما لفت المشاركون في المؤتمر، إلى أن غياب هيئة وطنية معنية بالسكن يشكل أحد أبرز العوائق أمام جذب الاستثمارات إلى هذا القطاع الحيوي، مؤكدين أن إقرار رؤية واضحة لأولوية السكن ضمن المنظومة الاقتصادية السورية من شأنه أن يفتح آفاقًا جديدة للاستثمار ويحفز نشاط قطاع البناء، بما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني. وشدّد المتحدثون على أهمية تحقيق إعادة إعمار عادلة وشفافة، محذرين من أن الإعلان عن مشاريع الإعمار في توقيت غير مدروس أو دون وضوح كافٍ قد يؤدي إلى نشوء نزاعات يصعب احتواؤها لاحقًا.
كما أوضح المشاركون أن المرحلة المقبلة تتطلب مراجعة وتعديل أكثر من 190 قانونًا لتتلاءم مع متطلبات إعادة الإعمار والتنمية، مؤكدين في الوقت ذاته أن القطاع الخاص ينبغي أن يكون شريكًا حقيقيًا في هذه العملية، لا سيما في ظل وجود سبع مناطق مدمرة بالكامل نتيجة التهجير والتدمير الممنهج، في وقت لا تزال فيه مصادر تمويل الإعمار غير محددة بوضوح حتى الآن.