الثلاثاء, 4 نوفمبر 2025 06:58 PM

“الصحوة” للوران غونيل: رواية تفكك عبودية ما بعد الجائحة وتُعيد ترتيب وعي القارئ

“الصحوة” للوران غونيل: رواية تفكك عبودية ما بعد الجائحة وتُعيد ترتيب وعي القارئ

رولا عبدالله: لا تقتصر أهمية رواية الكاتب الفرنسي لوران غونيل، التي صدرت بعد صدمة عالمية كالجائحة، على مضمونها، بل تتعداها إلى جرأتها في إعادة ترتيب وعي القارئ. "الصحوة"، التي صدرت حديثاً عن دار نوفل/هاشيت أنطوان (ترجمة كريستيل صوفي عزيز)، لا تقدم نفسها كحكاية خيالية عن وباء، بل كمنصة أدبية لتفكيك علاقة الإنسان بسلطته ومجتمعه وإعلامه وذاكرته.

اعتمد غونيل على أدوات غير روائية، مثل القراءات النفسية والاجتماعية والدراسات حول صناعة الطاعة والسيطرة الذهنية، ليضفي على السرد حمولة معرفية كثيفة، مما جعل الرواية أقرب إلى "مختبر أفكار" منها إلى عمل تخييلي محض. هذه القوة نفسها ستتحول لاحقاً إلى نقطة النقد الجوهرية.

فالمخاطر التي تهدد حياة الإنسان اليوم لم تعد مجرد أحداث عارضة، بل أصبحت جزءاً من طريقة عمل النظام نفسه: حوادث السير التي تُقدم على أنها قدر يومي، بينما هي نتاج بنية مدينية تفضل السرعة على الأمان؛ السكري الذي يُعامل كخلل فردي، بينما هو نتيجة منظومة غذائية صناعية شاملة؛ الشرائح الذكية والكاميرات التي تُباع لنا تحت شعار "الأمان"، بينما تؤدي عملياً إلى تعميق هندسة السلوك عبر التتبع الدقيق؛ بطاقات الدفع الإلكترونية التي تُسوّق كحل للسرقة والجريمة، لكنها تنشئ تبعية مالية كاملة قابلة للإغلاق بقرار واحد؛ والاحترار المناخي الذي يُروج له كقدر كوني، بينما هو حصيلة تفويض بلا سقف لرأس المال. هذه الأخطار الخمسة لا تعمل بشكل منفصل، بل كحقل تدريب طويل على التطبيع مع فكرة أن حياتك تُنظَّم وتُراقَب وتُكشَف وتُدار، بذريعة الحماية نفسها.

من جهة الفكرة، ينجح غونيل في تحويل الجائحة من حدث صحي إلى مرآة سياسية ومعرفية. فهو لا يكتفي بوصف النظام العالمي في طور إعادة توزيع سلطته، بل يذهب إلى تحليل آليات الإذعان وصناعة الخوف وتطبيع الاستثناء، وهو بذلك يعيد الاعتبار للأدب كأداة قراءة لا مجرد وسيلة للتسلية. غير أن هذا النجاح المعرفي يصاحبه ميل إلى المباشرة: فحضور تشومسكي وبيدرمان ومفاهيم هندسة الوعي يبدو أحياناً كإحالات جاهزة تُستدعى لإسناد الفكرة بدل أن تُهضَم عضوياً داخل البنية الروائية، مما يرفع منسوب اليقين ويخفض منسوب الالتباس الضروري للفن.

أما على مستوى الشكل، فالرواية تُبنى بإيقاع سردي يلتقط حالة الهلع الجماعي ويعيد ترجمتها في لغة متوترة تقف على حدود التقرير والتحليل. القارئ لا يدخل في "حياة شخصيات" بقدر ما يدخل في "حالة فكرية" تصاحب الشخصيات. وهذا خيار جمالي واعٍ، يقوي وظيفة الرواية النقدية، لكنه يضعف التعلق العاطفي ويقلل من أثر التعاطف التخييلي الذي يعتبر عادة محركاً داخلياً لرسوخ العمل في الذاكرة. الشخصيات في "الصحوة" تُستخدم كبنية حمل، لا ككائنات حية كاملة، وهو ما يمنح النص صلابته الفكرية ويحرمه مرونته الحكائية.

وفي دينامية التواطؤ بين الشكل والمضمون، يكسب غونيل حين يضع القارئ في مواجهة الأسئلة التي حاولت الأنظمة والأزمات كتمها: من يملك تفسير الواقع؟ من يعرّف الخوف؟ ومن يقرر ما إذا كانت حياة البشر مجالاً للتجربة السياسية؟ لكنه يخسر حين يتحول النص في مواضع كثيرة إلى ما يشبه بياناً مُعلَّلاً لا رواية مفتوحة على التعدد. فالرواية التي تعلن أطروحتها بوضوح تقترف ضد نفسها ما تتهم الواقع بفعله: تضييق تعددية التأويل.

خلاصة القول: "الصحوة" ليست رواية ضعيفة، لكنها أيضاً ليست رواية بلا ثمن. إنها عمل قوي حين نقرأه كوثيقة أدبية عن وعي ما بعد الجائحة، وحين نحاسبه كأدب خالص يظهر مقدار ما دفعه من حيوية التخييل لقاء ما كسبه من صلابة الأطروحة. قوتها أنها توقظ القارئ، ونقصها أنها أحياناً لا تترك له مسافة ليحلم بعد أن يستيقظ.

أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار

مشاركة المقال: