عنب بلدي – جلال ألفا – تشهد سوريا في السنوات الأخيرة انتشارًا ملحوظًا للأكاديميات الرياضية الخاصة، والتي تعمل كمراكز لتعليم أساسيات كرة القدم والألعاب الأخرى لمختلف الفئات العمرية، وذلك في ظل تراجع دور المدارس الرياضية الحكومية. رفعت هذه الأكاديميات شعارات مثل "صناعة المواهب" و"بناء جيل محترف"، إلا أن بعض الأوساط الرياضية تعتبر هذه الشعارات مجرد ترويج لأهداف "تجارية بحتة" تستغل شغف الأطفال بالرياضة لتحقيق الربح، دون تقديم محتوى تدريبي حقيقي.
يثير هذا الوضع تساؤلات حول مدى جدية هذه الأكاديميات ومعاييرها الفنية، بالإضافة إلى التحديات التي تواجهها، ومدى إشراف وزارة الرياضة عليها، وهو ما يرصده هذا التقرير من عنب بلدي.
أهداف رياضية أم تجارية؟
تعيش الأكاديميات الرياضية في سوريا حالة من التباين بين الطموح والإمكانات، حيث يسعى بعضها بجدية لتطوير جيل جديد من اللاعبين وفق أسس علمية حديثة، بينما يكتفي البعض الآخر بالعمل التجاري. رنا باروتجي، المديرة التنفيذية لأكاديمية "سكور"، صرحت لعنب بلدي بأن الأكاديمية تسعى لصناعة لاعب محترف قادر على تحويل شغفه بكرة القدم إلى مسيرة حقيقية. أما أحمد حسون، المدرب في أكاديمية "كوارك" الإسبانية، فأوضح أن وجود الأكاديمية في سوريا يأتي ضمن جهود دعم إعادة البناء الرياضي في البلاد، مع التركيز على توفير بيئة رياضية مناسبة تمنح اللاعبين فرصة لتطوير مهاراتهم بشكل جيد.
من جهته، أكد مجد الحاج أحمد، المتحدث الرسمي باسم وزارة الرياضة والشباب، أن الوزارة تولي اهتمامًا خاصًا بمشروع الأكاديميات الرياضية، لما له من أثر مباشر على تأهيل المواهب علميًا وبدنيًا، وتسعى لأن تؤتي هذه الأكاديميات ثمارها خلال ثلاث سنوات، أسوة بتجربة المغرب الناجحة. في المقابل، يرى نور الدين شبرق، محلل الأداء والإحصائي، أن أغلب الأكاديميات في سوريا تعمل بدوافع "تجارية بحتة"، رغم رفعها شعارات "الاحتراف"، دون أن يظهر ذلك بشكل فعلي على أرض الواقع. وأشار إلى أن لكل أكاديمية استراتيجيتها الخاصة التي تتأثر بظروفها المادية، وأن الهدف الأساسي لأي أكاديمية يجب أن يكون تطوير أداء اللاعبين وصقل مهاراتهم بالشكل الأمثل. ويتفق معه غيفارا الخطيب، الأكاديمي والمحلل الرياضي، الذي يرى أن معظم الأكاديميات الكروية في سوريا تواجه انتقادات تتعلق بغياب الرؤية الفنية الواضحة، حيث يغلب على عدد منها الطابع "التجاري" أكثر من الجانب الرياضي أو التعليمي. ويرى أن البرامج التدريبية المعتمدة في كثير من هذه الأكاديميات تقتصر على تعليم المهارات التقنية الأساسية لكرة القدم، دون وجود منهج متكامل يشمل الجوانب البدنية والذهنية أو التكتيكية، وهو ما يحدّ من قدرتها على تطوير اللاعبين بشكل حقيقي ومستدام.
تحديات مالية وغياب الرعاية
تواجه بعض الأكاديميات تحديات مادية، أبرزها غياب الرعاة، ما يثقل كاهل الإدارة والمدربين، وفق ما ذكرته رنا باروتجي. وأضافت أن الوضع الاقتصادي الصعب يجعل تجاوب الأهالي محدودًا من حيث تأمين المستلزمات الأساسية للاعبين. وأكدت أن الأكاديمية تهدف إلى تطوير المواهب وتقديم تدريبات عالية المستوى، ولهذا استقطبت فريقًا من المدربين الحاصلين على أعلى الشهادات المعتمدة في البلاد وأصحاب الخبرة الطويلة في التدريب والعمل داخل الأندية. من جانبه، أشار أحمد حسون إلى أن أبرز التحديات تكمن في محدودية الملاعب التدريبية في محافظة اللاذقية، مقارنة بعدد الأندية والأكاديميات القائمة، بالإضافة إلى صعوبة تأمين تجهيزات بمواصفات دولية داخل السوق المحلية، ورغم كل ذلك، أكد حسون أن الأكاديمية تعمل على تجاوز هذه العقبات عبر التنظيم الدقيق والمرونة والتعاون مع الجهات الرسمية.
المنهجية ومعايير التدريب الحديثة
أكدت رنا باروتجي أن أكاديمية "سكور" تعتمد على برامج تدريبية قائمة على أسس علمية، ويملك مدربوها شهادات معترف بها من الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، وأن الأكاديمية مزوَّدة بأدوات تحليل أداء متطورة تمكّن المدربين من متابعة تقدم جميع اللاعبين بدقة وفاعلية. وأشار أحمد حسون إلى أن الأكاديمية الإسبانية مزوَّدة بأحدث الأدوات التدريبية التي تدعم تنمية المهارات الفردية واللياقة البدنية للاعبين، وتعتمد على تقنيات تصوير علمية متقدمة، وتستفيد من مرافق المدينة الرياضية في اللاذقية لتوفير بيئة تدريب تحاكي المعايير الاحترافية الدولية. وأوضح أن المناهج التدريبية مستوحاة من النظام الإسباني، وهو من أكثر الأنظمة نجاحًا في العالم، وتطبق برامج تدريبية معتمدة من الاتحاد الإسباني لكرة القدم، تغطي الجوانب الفنية والبدنية والذهنية، مع تعديلها لتتناسب مع ظروف اللاعبين السوريين، وتعمل تحت إشراف خبرات إسبانية ومحلية لضمان نقل الخبرات والمعرفة إلى الكوادر الوطنية. وتستعد "كوارك" لإطلاق اختبارات انضمام "TRY OUT"، بالتعاون مع كشّافي نادي ريال أوفييدو الإسباني، بهدف منح اللاعبين السوريين فرصة حقيقية للظهور أمام الأندية الأوروبية، وإحياء الحلم الكروي السوري عبر مشروع مدروس يجمع بين الخبرة الإسبانية والطاقة المحلية.
اللاعب موسى إبراهيم العمر قال لعنب بلدي إن أكاديمية "كوارك" تعد من أبرز الأكاديميات في سوريا، بفضل اعتمادها على الفكر والمنهجية الإسبانية المتميزة، وأنها مدرسة لتطوير المهارات وتعليم أساسيات كرة القدم، كما أنها تتمتع بعلاقات قوية مع الأندية الأوروبية، ما يسهم في مساعدة اللاعبين على تحقيق حلم الاحتراف. وأكد اللاعب حسن المحمود أن المعايير التي تعتمدها الأكاديمية الإسبانية تتسم بدرجة عالية من الاحترافية، وتنسجم مع تطلعات اللاعب السوري الذي يفتقر إلى أبسط مقومات التدريب العصري، مشيرًا إلى أهمية سعي اللاعب السوري لاكتساب الفكر الأوروبي، لما لذلك من أثر إيجابي على مستقبل الرياضة السورية.
إشراف رسمي
أفادت رنا باروتجي بوجود تعاون مباشر بين وزارة الرياضة والشباب وأكاديمية "سكور"، حيث سهلت الوزارة مشاركات الأكاديمية الخارجية وأصدرت الموافقات الرسمية اللازمة، وشددت على ضرورة وجود جهة متابعة دورية لأداء الأكاديميات، معتبرة أن الإشراف الرسمي يصب في مصلحة الجميع. وأشارت إلى أن بعض الأشخاص يقتصر دورهم على استئجار ملعب وجمع عدد من المدربين، ثم يطلقون على أنفسهم اسم "أكاديمية"، رغم أن أنشطتهم غالبًا محدودة، ولا تقدم تدريبًا حقيقيًا أو تطويرًا فعليًا للاعبين، ما يجعل وجود جهة رسمية لتقييم وتصنيف الأكاديميات أمرًا ضروريًا. وأوضح أحمد حسون أن أكاديمية "كوارك" تعمل تحت إشراف مباشر لشركة "إلكوازار" للتسويق الرياضي، وهي جهة مرخصة من وزارة الرياضة والشباب السورية، وأن الأكاديمية على تنسيق وتعاون مستمر مع الوزارة والمديريات، لضمان الالتزام التام بالقوانين والأنظمة الرياضية السارية في البلاد. وفي هذا الإطار، تعمل مديريات الرياضة والشباب في مختلف المحافظات على تقديم الدعم الكامل للأكاديميات المرخصة التي تفتقر إلى مقار خاصة للتدريب، من خلال إتاحة المنشآت والمرافق الحكومية أمامها للاستفادة منها، كما تتولى المديريات الإشراف المباشر على البطولات التي تُنظم بناء على مقترحات الأكاديميات، مع متابعة سيرها بشكل مستمر لضمان تنظيمها وفق المعايير الفنية والإدارية المطلوبة.
غياب الكشّافين
ذكرت رنا باروتجي أنه لا يوجد حتى الآن نظام رسمي من قبل الوزارة أو الاتحاد يتعلق بآلية اختيار اللاعبين المميزين لضمهم إلى المنتخبات الوطنية، وأن الأكاديميات بحاجة ماسة إلى كشّافين ومدربين مختصين بالفئات العمرية الصغيرة، لتقييم المواهب ومواكبة تطورها بالشكل الصحيح. الكشّاف خوسيه غوميز يرى أن مستوى المهارة لدى اللاعبين السوريين لا يزال محدودًا، لكنه قابل للتحسن بوضوح مع الجهد والمثابرة، وأن الأندية والشركات الرياضية لم تولِ اهتمامًا كافيًا بالسوق السورية في السابق، الأمر الذي دفعهم للحضور بأنفسهم لإتاحة فرص حقيقية أمام المواهب المحلية لإثبات قدراتها. في حين يرى تشافي هيدالغو، الرئيس التنفيذي لأكاديمية "كوارك" الإسبانية، أن سوريا تمتلك خامات واعدة من اللاعبين، إلا أن تطويرها يرتبط بالاستمرارية في التدريب والانضباط في العمل، وأن الأكاديمية تسعى لفتح أبواب الاحتراف أمام هذه المواهب، من خلال توفير جسور تواصل حقيقية مع الأندية الأوروبية، ولا سيما في إسبانيا، لتمكين اللاعبين السوريين من خوض تجارب احترافية حقيقية.
سياسة توقيع العقود
أوضحت رنا باروتجي أن قيام الأكاديمية بتوقيع عقود مع بعض اللاعبين الذين تُستثمر فيهم جهود وموارد مالية كبيرة لتأهيلهم للمستقبل أمر طبيعي، وأن حصول الأكاديمية على عائد مادي من العقود أمر طبيعي لضمان حقوق الطرفين، وأن الهدف الأساسي هو تأمين الدعم اللازم للاعب ومساندته في خطواته المستقبلية نحو الاحتراف. من جهته، أوضح أحمد حسون أن نهج أكاديمية "كوارك" يختلف في طبيعته، إذ يركز على تطوير المواهب الشابة وانتقاء المميزين منهم لخوض تجربة الاحتراف الأوروبي، وتأتي مرحلة توقيع العقود لاحقًا.
في نهاية المطاف، تبدو الأكاديميات الرياضية في سوريا خطوة واعدة على طريق إعادة بناء الرياضة المحلية، لكنها ما زالت بحاجة إلى أرضية أكثر صلابة من الدعم والرقابة والتنظيم. والواقع يشير إلى أن الطابع التجاري لا يزال يغلب على معظم هذه المشاريع، حيث تُعامل الرياضة كوسيلة للربح أكثر من كونها استثمارًا في بناء الأجيال.