الإثنين, 10 نوفمبر 2025 01:55 PM

ألبير كامو: من شمس الجزائر إلى فلسفة العبث والوجود

ألبير كامو: من شمس الجزائر إلى فلسفة العبث والوجود

صباح صيفي على الساحل الجزائري، حيث تغمر أشعة الشمس الحارقة بياض ملح مياه البحر الأبيض المتوسط. في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1913، وُلد ألبير كامو في مدينة موندوفي (الذرعان لاحقاً)، وهي مدينة صغيرة في شرق الجزائر كانت آنذاك تحت الاحتلال الفرنسي. كانت حياته حياة طفل بقدرٍ تسربت إليه الظلمة مبكراً.

وُلد ألبير لوسيان كامو لعامل زراعي من أصل ألزاسي، وكاثرين هيلين سينتِس، من أصول إسبانية. بعد وقت قصير من ولادته، اندلعت الحرب، وقُتل والده على الجبهة في معركة المرن عام 1914. تشكل وعيه بمزيج من الفقدان والغياب، حيث كانت والدته الأمية والضعيفة السمع ترعاه ضمن أسرة ممتدة تسكن شقة متواضعة في حي بلكور الشعبي في الجزائر العاصمة، بعيداً عن الماء الجاري، ولكن على مقربة من البحر.

اكتشف الطفل حرارة الصيف الجزائري، وعرق الأرض اليابسة، وأصوات الأطفال على الشاطئ، بالإضافة إلى مرارة الفقر. سجل كامو هذه السنوات الأولى لاحقاً كصورة إبداعية لـ "إقليمه الأول".

بفضل منحة ودعم معلمه لويس جيرمان، التحق كامو بثانوية الجزائر. انفتح على الكتب والفلسفة والفكر الكلاسيكي والحديث – أفلاطون، باسكال، نيتشه – وكذلك على الحياة اليومية. لكن القدر كان له موعد مظلم جديد معه، ففي عام 1930 أصابه مرض السل، مما أضعف جسد الشاب الذي كان يحب الملاكمة والسباحة، وأوقف أحلامه الرياضية.

رغم ذلك، لم يتوقف عن الكتابة. نشر مقالاته الأولى، وارتبط بالصحافة الجزائرية، وكان يحمل منذ تلك اللحظة مهمة مزدوجة: أدبية وسياسية. كان كامو واعياً للعدالة، وللتمييزات الاستعمارية، ولهشاشة الحياة البشرية.

عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، كان كامو في باريس ثم في منطقة محتلة. انضم إلى مقاومة فكرية وأصبح رئيس تحرير الصحيفة السرية "كومبا". في هذا السياق العالمي المضطرب، صدرت أعمال بارزة مثل "الغريب" (1942) و"أسطورة سيزيف" (1942).

في "الغريب" – التي قدمها المخرج الفرنسي فرانسوا أوزون أخيراً على شاشة مهرجان البندقية السينمائي، اختلط عبث الوجود، والبرود في مواجهة الحياة أو الموت، بتجارب جزائرية عاشها في طفولته: شمس لاهبة، بحر فاتر، وشواطئ قد ينقلب فيها كل شيء. وفي "أسطورة سيزيف" وضع إحدى الكلمات المفتاحية في فكره: العبث، التوتر بين رغبتنا في المعنى وحياة العالم المتجهمة.

رفض كامو أن يُدرج ببساطة ضمن فئة الوجوديين، قائلاً: "أنا لست وجودياً". بالنسبة إليه، الفلسفة ليست نظاماً مجرداً ولكن تجربة معيشية، وكتابة للاختيارات والجروح. ركز على مفهوم الثورة لا بوصفها تمرداً أعمى، بل رفضاً للخضوع للظلم والهمجية. وحملت أعماله توتراً مزدوجاً: من العبث إلى الثورة، ومن العزلة إلى الجماعة. في "الطاعون" (1947)، تحولت مدينة وهران المحتجزة إلى استعارة عن الحالة الإنسانية: الوباء، التضامن، الموت، والأمل.

ترتكز فلسفته على مفهوم العبث، الذي يعرّفه بأنه المواجهة بين سعي الإنسان إلى المعنى وصمت العالم اللامبالي. رافضاً في آن واحد العدمية والتعزيات الماورائية، شيد كامو فكراً يقوم على الصفاء العقلي والتمرّد. في "أسطورة سيزيف" يؤكد أن إدراك العبث لا يقود إلى اليأس، بل إلى شكل من أشكال الحرية: حرية العيش من دون أوهام، بانفتاح كامل على الحياة بكل قوتها رغم غياب معناها النهائي. وتمتاز فلسفته بما يمكن تسميتها "الإنسانية المأسوية"، إذ تدعو إلى المثابرة على الكرامة والتضامن، وإلى "تخيل سيزيف سعيداً". وبذلك، طرح كامو أخلاقاً تقوم على الاعتدال والمسؤولية، قائمة على الوفاء للشرط الإنساني، بدلاً من السعي وراء تسامٍ زائف أو وهمي.

الاستعمار والمآزق الجزائر: أرضه، مسرح طفولته، وأيضاً مكان التناقضات. كامو، واحد من "الأقدام السوداء" (pied-noir) – رجل من الجيل الفرنسي في الجزائر الاستعمارية – كاتب فرنسي من الجزائر، وجد صوته في هذا الاغتراب المزدوج. ندد ببعض مظاهر العنف الاستعماري، ودافع عن جزائر تعددية، بينما رفض الحرب بكل تطرفاتها.

ذلك الموقف كلفه انتقادات لاذعة: ليس فعلاً في جانب المستعمِر المنتصر، ولا تماماً في جانب الثورة الوطنية التي رآها كثيرون حتمية. ظل وفياً لإنسانيته الصارمة، القائمة على حرية وعدالة لا تنفصلان.

في عام 1957، عن عمر يناهز 44 عاماً، نال كامو جائزة نوبل للآداب "لتعبيره الأدبي الحاسم الذي بروح صادقة ومنطقية يستنير بمشكلات الضمير الإنساني في عصرنا". أصبح شخصية عالمية، لكنه بقي رجلاً على الأرض، يقظاً للظلم الذي لا يمكن تحمله. وفي أواخر الخمسينات، مع تدهور صحته واستعدادات متكررة للسل، كان يعمل على روايته "الرجل الأول"، وهي عمل غير مكتمل، تجسد ذاكرة الجزائر، وتعد تحية لأمه، وأثراً من جذوره.

في الرابع من كانون الثاني/يناير 1960، وعلى طريق جليدي في منطقة بورغونييه الفرنسية، اصطدمت سيارة من طراز "فاسيل فيغا" كانت متجهة إلى باريس بشجرة بلوط ضخمة. كان خلف المقود الناشر ميشيل غاليمار، وإلى جانبه كامو. في جيب معطف الحائز على نوبل، وجدت نصف تذكرة قطار. كان ينوي في البداية العودة بالقطار مع زوجته وأطفاله، لكنه في اللحظة الأخيرة قبل دعوة صديقه. لفتة بسيطة، شبه عادية، لكنها كانت كافية لتختم مصيره.

عثر المسعفون بين الحطام على حقيبة تحتوي على المخطوط غير المكتمل لـ "الرجل الأول". نجا من المخطوط المحترق نصفه… أما صاحبه فلم ينجُ. مفارقة مأسوية: الرجل الذي جعل من "العبث" فلسفة حياة، لقي حتفه في أكثر الميتات عبثاً صاعقاً في السادسة والأربعين من عمره، من دون سبب، على طريق مستقيم وخالٍ من أي خطر. كتب كامو يوماً أن "العبث يولد من هذا التصادم بين النداء الإنساني وصمت العالم اللامعقول".

بقي صوته يتردد "في قلب الشتاء، اكتشفت أن فيّ صيفاً لا يقهر". أعماله، المؤلفة من بحار جارفة، مدن مشوهة، ووجوه عادية، تدعو دوماً إلى تلك الثورة الواعية. وحتى اليوم، في عالم يعود فيه عبثيته تتخذ أقنعة متنوعة وجديدة، يبقى كامو مرجعاً ورفيقاً: ذاك الذي نعود إليه ونلتقيه بين كتاب وآخر، في تفصيل حياتي وآخر، والمفكرة في أيدينا، مستعدين للرصد، وللسؤال.

مشاركة المقال: