الثلاثاء, 11 نوفمبر 2025 05:00 AM

عبق الماضي وحنين الأرض: موسم الزيتون في الساحل السوري ذاكرة لا تموت

عبق الماضي وحنين الأرض: موسم الزيتون في الساحل السوري ذاكرة لا تموت

مع كل موسم لقطاف الزيتون، تنتشر رائحة عبقه في الأرياف، محولة الحقول إلى مسرح لطقوس مليئة بالفرح والحنين. ففي الساحل السوري، لا يقتصر هذا الموسم على كونه عملاً زراعياً، بل هو احتفاء بالذاكرة والألفة والهوية، حيث تتلاقى الأيدي وتتعانق الأرواح على أنغام أغاني الجدات ومواويل الصبايا.

بدأ موسم القطاف هذا العام وسط أجواء من عدم التفاؤل، نتيجة لتأثير الظروف المناخية على الإنتاج. ومع ذلك، يبقى الأمل موجوداً، كما يعبر المثل الشعبي: "سنة محيل وسنة قبيل"، مؤكداً على أن المواسم تتناوب بين القلة والوفرة، لتعود الأرض وتجود بخيرها من جديد.

في ذاكرة الريف الساحلي، تظل رائحة الزيت والتراب جزءاً لا يتجزأ من تفاصيل الحياة اليومية. كانت أيام القطاف تمثل مشهداً أسرياً متكاملاً، يتقاسم فيه الجميع العمل والضحكة والخبز والماء والشاي المُعد على الحطب. يسترجع الثمانيني سلمان أبو علاء تلك الأيام قائلاً: "كنا نعمل كخلية نحل حول كل شجرة، الأب يراقب من فوق البرميل، الأولاد يصعدون الأغصان العالية، والأم والأخوات يجمعن الحبات المتساقطة. كنا نأكل الخبز والحلاوة والسردين المغربي الحار، ونغني فرحاً بزيتوننا. اليوم خفّت تلك الألفة، وصار الاعتماد على الأيدي العاملة بديلاً عن دفء العائلة."

ويضيف: "كانت الجملة التي تتكرر في كل موسم تلخص التعب والاعتزاز معاً: الزيتون زيته طيب، لكن لقاطه بشيب".

ويصف الباحث في الموروث الشعبي اللامادي نبيل عجمية في حديثه لـ "الحرية"، موسم الزيتون بأنه كان ولا يزال موسم الألفة والخير، يملأ النفوس بعبق التراب وصوت الأغاني الشعبية التي تتناقلها الأجيال، مثل أغنية: "على دلعونا، على دلعونا… زيتون بلادي أحلى ما يكونا".

ويشير عجمية إلى أن الأجداد كانوا يعتبرون الزيتون بركة لا يجوز احتكارها، لذا كانوا يتركون جزءاً من الثمار للطير والحيوان والفقير، مرددين: "لا تنسوا فقراء ضيعتكم، أرسلوا لهم الزيتون والزيت ليذكروكم بالدعاء". ويتابع: "كانت القرى أيامها خالية من الطرق المعبدة والسيارات، وكان الأهالي ينقلون محاصيلهم على ظهور الدواب، في مشهد يحكي البساطة والعزم." ويؤكد الباحث أن الزيت آنذاك كان يحمل بركة أكبر، لأنه جُني بالألفة والرضا.

ويعتبر عجمية أن التراث هو الأرشيف الحي لذاكرة الأمم، يوثق تفاصيل الحياة اليومية وينقلها من جيل إلى آخر، لتظل الأغاني والأمثال الشعبية مرآة لهوية الناس ووجدانهم. ومن الأمثال التي ارتبطت بمواسم الزيتون: "كُول زيت وناطح الحيط"، و"خلّي الزيت بجراره حتى تجي أسعاره"، و"الزيتون زيته طيب، بس لقاطه بشيب"، و"إذا عندي طحين وزيت صفّقت وغنّيت".

ويوضح أن موسم الزيتون في الساحل السوري يبقى طقساً من طقوس الفرح، يعيد الناس إلى جذورهم الأولى، إلى الأرض التي علمتهم الصبر والعطاء، وإلى الأغاني التي حفظت الذاكرة من الغياب، كما كانت تقول الجدات دائماً: "الزيتونة بتجيب الزيت، وبنت الأصل بتعمر بيت".

وختاماً، فإن موسم الزيتون ليس مجرد موسم للقطاف، بل هو فصل من الحنين، واحتفال بالألفة التي لا تذبل، كما لا تذوي شجرة الزيتون الخضراء أبداً في وجه الريح والزمان.

اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية

مشاركة المقال: