الأربعاء, 12 نوفمبر 2025 08:34 PM

أسواق دمشق القديمة: حرفيو النحاسين والمناخلية يحافظون على إرث المدينة العريق

أسواق دمشق القديمة: حرفيو النحاسين والمناخلية يحافظون على إرث المدينة العريق

دمشق-سانا: في أزقة دمشق القديمة العتيقة، حيث التاريخ ينبض في كل زاوية، يقف سوقا النحاسين والمناخلية شامخين كحارسين أمينين على تراث المدينة. يروي الحرفيون قصصاً من زمن كانت فيه الحرفة مصدر فخر، والصنعة فناً رفيعاً، والسوق ملتقى للأرواح قبل أن يكون مجرد مكان للتبادل التجاري.

يقع السوق، الذي يزيد عمره عن 200 عام، داخل سور دمشق الأثري، بين حي العمارة وقلعة دمشق. هنا، يصوغ الحرفيون بأيديهم الماهرة قصائد من المعدن والخشب، ينقلون للأجيال القادمة حكايات إبداعهم، ويجسدون في أعمالهم صبر الأيادي العاملة، ودقة الصنعة، وقيمة الحرفة.

ماض عريق وحاضر يواجه التحديات

الحرفي عماد الدين الهيجاني، البالغ من العمر 54 عاماً، صرح لمراسلة سانا قائلاً: "بدأت العمل في سوق النحاسين في سن الرابعة عشرة، وعشت فيه أربعين عاماً بين المطرقة والسندان. شهدت ماضيه العريق وحاضره الذي يعاني من قلة عدد الحرفيين."

أوضح الهيجاني أن السوق كان في الأصل مخصصاً للنحاسين فقط، ولكن مع مرور الوقت، دخلت مهن أخرى، وبدأ البعض ببيع أواني مختلفة. ومع ذلك، لا تزال الصبغة النحاسية هي الغالبة على السوق. وأشار إلى أن أعماله تتنوع بين هلالات الجوامع، والمجامر، وقطع الضيافة للقهوة، وغيرها.

أكد الهيجاني أن الأواني النحاسية الدمشقية تشهد إقبالاً متزايداً، خاصة من قبل المطاعم، مثل الحلل الكبيرة لطهي المناسف، بالإضافة إلى المقالي والجاطات الضيافية التي تحمل طابعاً تراثياً فريداً. وأضاف أن الزبائن من دول الخليج يفضلونها لجودتها وأناقتها وارتباطها بالهوية الثقافية.

إرث لا يندثر

الحرفي محمد شريف المرعي "أبو عارف"، أكد أنه شاهد على هذه الحرفة العريقة المتوغلة في القدم، وأن ذاكرته لا تزال تنبض بالحياة. وقال: "كان السوق يعج بالحرفيين، أما اليوم فقد تقلص عددهم كثيراً، وما زالوا يقاومون بصمت، حيث تراجع الإقبال على الأواني النحاسية، رغم جمالها وعمقها التراثي."

دعا المرعي إلى ضرورة تخفيض الرسوم على المواد الأولية غير المتوفرة محلياً، وتقديم دعم حقيقي للحرفيين، للحفاظ على هذه الحرفة، مؤكداً أن الحرفيين الباقين يعملون للحفاظ عليها ونقلها للأجيال القادمة، لأنها تمثل جزءاً من هوية دمشق وتراثاً لا يقدر بثمن.

السوق لا يزال يحتفظ بروحه الأصيلة

موفق الأيوبي، الذي يعمل في سوق المناخلية منذ ستين عاماً، أوضح لمراسلة سانا أن اسم السوق مشتق من الحرفة التي نشأ عليها، وهي صناعة المناخل والغرابيل، الأدوات التي كانت أساسية في الحياة الزراعية والتجارية والصناعية في الماضي. وأضاف أن السوق تحول اليوم إلى مركز لبيع الخردوات والعدد الصناعية، لكنه لا يزال يحتفظ بروحه الأصيلة، وجدرانه القديمة، وعائلاته التي توارثت الحرفة جيلاً بعد جيل.

عشق متجذر في القلب

أما الحرفي موفق أمون، أحد أقدم العاملين في السوق، فقال: "أعمل في هذه الحرفة منذ أكثر من خمسين عاماً، تعلمتها أباً عن جد، واستطعت أن أبدع فيها، لأنها ليست مجرد صنعة، بل عشق متجذر في القلب."

أوضح أمون أن القطع التي يصنعها تتنوع بين الأواني المنزلية الصغيرة، وأدوات المطبخ الكبيرة التي تطلبها المطاعم، وأدوات الحمام التقليدية. وأشار إلى أن أغلب الزبائن يأتون من خارج دمشق، بحثاً عن الجودة والأصالة التي تتميز بها المنتجات النحاسية الدمشقية.

يُعدّ سوق النحاسين في دمشق القديمة وجهة مقصودة للباحثين عن الأصالة الدمشقية، فهو يجمع بين روح الماضي ودفء الحاضر، ويمنح الزائر شعوراً بالراحة والانتماء. السوق لا يقدم منتجات فحسب، بل يوفر كل ما يحتاجه الحرفيون من أدوات وخامات، ويشكل بيئة حاضنة للحرفة.

مشاركة المقال: