الجمعة, 14 نوفمبر 2025 08:20 AM

رحلة في الذاكرة الصوتية: أصوات من الماضي تتردد في الحاضر

رحلة في الذاكرة الصوتية: أصوات من الماضي تتردد في الحاضر

أتخيل إمكانية الاستماع إلى أصوات الماضي الهائمة في الفضاء، تلك الأحاديث السرية والثرثرات والمحاورات، صرخات الألم الممزوجة بضجيج الحروب، والتي تعبرها فجأة موسيقى بيانو أو عود أو ناي. ما الذي يبقى من تلك الهمهمات والتأوهات؟ وما الذي سينطبع على ذاكرتنا لنستعيده مراراً كما لو أننا نشاهده على شاشة الزمن الحاضر؟

سألت بعض الأصدقاء عما خزّنته ذاكرتهم من أصوات، فجعلني نهر كلماتهم أفكر بفانتازيا مخيفة أو بلمسة من الخيال العلمي الغرائبي، حول كمبيوتر كوني عملاق أو "سيرفر" ضخم يحتفظ بآلاف الغيغابايت من أشيائنا البشرية، وسيكون بإمكان المخلوقات الكونية الأخرى سماعنا بعد اختفاء البشر!

رائحةُ الصوت!

مفاجأة سؤالي للأصدقاء أيقظت حنينهم لذكريات عاشوها بشغف. الكاتبة تغريد مصطفى قالت: "أجمل الأصوات التي بقيت في ذاكرتي وأحب استرجاعها، هي التي كنت أسمعها في بيت جدي في ضيعة جبلية من قرى مصياف/حماة، حين كان يمتزج صوت الراعي وهو ينادي على العنزات، مع صوت النساء وهنّ يخبزنّ على التنور، وأحاديث أهل الضيعة عن أدوارهم في سقاية الأرض. أصوات عالية لكنها غير مزعجة، ذاك المزيج النادر كوّن رائحة خاصة ما زلت أشمّها كلما زرت بيت جدي. أما في أيامنا هذه، أكثر ما يأسرني وسط هذا الضجيج هو: الصمت، صوت الحزن الصامت، وصوت العطاء الصامت."

منذ دهر من الزمان!

المخرج المسرحي وائل علي شاركني أفكاره عن الصوت وغوايته، وكأننا نكمل حديثاً بدأناه قبل سنين طويلة أيام الدراسة الجامعية، قائلاً: "فكرتك عن الصوت جعلتني أكتشف كم أنني كائن بصري، مع ذاكرة بصرية مخيفة، يعني من دون النظر أصبح لا شيء! صورتك مثلاً عندما أتذكرك تطلع على بالي بلا صوت. أشتاق لك بلا صوت أيضاً، وكل الصور بلا أصوات، باستثناءات قليلة جداً، وإذا كنت أنت ممن يعشقون الأصوات ويحفظونها؛ فبإمكانك لصْقُ صوتي على الصورة وأنْ تعمل شوقاً مرئياً مسموعاً في خيالك! تسألني عن أيُّ الأصوات؟ وتطلعُ في بالي صورةُ شخصٍ واقفٍ أمام شباك، يتأملُ سماءً رماديةً، فيما قبل لحظة واحدة كانت قد مرّت سيارةٌ في جوفها راديو قديم "موجتو عم تخشّ" وهناك صوتُ أغنية يُسمَعُ لأربعِ ثوانٍ لدرجة أنه لا يمكنُه تمييز الأغنية بدقة لكنه يُحسُّ إحساس غامض أنه يعرفُ ذاك اللحن جيداً… بل يعرفه منذ دهرٍ مِن الزمان".

صوتُ الهمس!

والدي أجابني كتابةً: "هو صمتٌ من نوع الهمس في قائظة صيف قديم؛ حيث صوت قبّرات يتصادى بعيداً، وأزيزُ ذبابةٍ عابرةٍ… ولا شيء آخر سوى زرقة بعيدة، فوق في مكان لا يمكن تحديده، من خلل عينين شبه مغمضتين على خدر، خلفَ ستارةٍ تمّت تسويتها بعناية لتتركَ ظلاً بارداً يكفي للتمدد والاسترخاء بعد ساعات بدأتْ مع عملٍ ما في الصباح، وانتهتْ بـ (قرص شنكليش وهبّول تين ورغيف تنّور)"!

يماماتُ الصدى!

الصوت دلالة، طباق بين الفكرة وتجسيدها. إنه الصوت المتحوِّلُ إلى صورةٍ في وعينا وخيالاتنا، الصوتُ جريانُ الروح في قصب الناي، صهيلُ أحصنة برّية في السهل، لعِبُ الرياحِ بشعورها المتمرجحة، موّالٌ عتيقٌ يشقّ الروح، وضحكةُ فرحٍ تـُرتق جسداً مزّقه الملل!

في فضاء الاحتمالات التي نتكوّن منها، وحين يُغرينا أن نختارَ عدةَ "أصواتٍ" للاختباء خلفها؛ يبقى "صوتُ الشخصية الحقيقي" هو الدليلُ المترفُ في وضوحه على أننا لن نستطيع الهربَ من كوننا نحنُ ما نحنُ عليه حتى لو غيّرنا لونَ عيوننا وأسمائنا.

ولكن أيضاً، حينَ تمسُّنا الموسيقا وتسعى الأرواحُ إلى بعضها كالتقاءِ الماءِ بالماء… لحظتَها سأطلق صوتي في الكون وأقول لكم: أحبكم… لعلّ يماماتِ الصدى تعود يوماً ما حاملةً في مناقيرها غصنَ المحبة.

مشاركة المقال: