الجمعة, 14 نوفمبر 2025 02:59 PM

عامودا تحترق في الذاكرة: قصة سينما شهرزاد والمأساة التي لا تُنسى

عامودا تحترق في الذاكرة: قصة سينما شهرزاد والمأساة التي لا تُنسى

هوكر العبدو ـ عامودا: بعد مرور خمسة وستين عامًا، يتجول العم رشيد فاطي ببطء بين بقايا "سينما عامودا"، ممسكًا بذاكرة لا تزال حية. يتوقف أمام جدار أبيض يحمل بقعة سوداء في زاويته الغربية، ويشير قائلاً: "هنا بدأ كل شيء، وهنا انتهى كل شيء".

يروي العم رشيد قصة الليلة التي غيرت وجه المدينة إلى الأبد. لم يكن أحد يتوقع أن يتحول مكان للترفيه إلى محرقة جماعية في دقائق معدودة، مما أودى بحياة أكثر من 200 طفل، معظمهم من تلاميذ المدارس الابتدائية. يعود بنا رشيد، البالغ من العمر سبعة وسبعين عامًا، إلى زمن الوحدة بين سوريا ومصر تحت اسم "الجمهورية العربية المتحدة": "قالوا لنا إن حضور الفيلم واجب وطني، وطلبوا من كل تلميذ أن يحضر أربعين قرشًا". طلبت السلطات السورية آنذاك من المدينة الصغيرة الواقعة على الحدود التركية أن تحتفل بأحلام الوحدة من خلال حضور عرض سينمائي يذهب ريعه لدعم ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي.

لم تكن "سينما شهرزاد" قاعة حقيقية، بل كانت أشبه بفناء متهالك بسقف من القش وأعمدة خشبية، وأبواب ضيقة لا تتسع لشخصين معًا، ولا تصلح حتى لتربية الماشية، على حد تعبيره. "في تلك الليلة، حُشر نحو 400 طفل في القاعة الصغيرة. جلسوا متلاصقين، بين ضحكات متحمسة وهم يترقبون العرض، قبل أن يتحول كل شيء إلى فوضى عارمة".

في منتصف العرض، انقطعت الصورة وظهرت الشاشة بيضاء، كما يروي العم رشيد: "ثم سمعنا صوتًا حادًا من الخلف، أشبه بصوت صاروخ. التفتُّ ورأيت شريط الفيلم يشتعل، وفي لحظات غطت النيران القاعة بأكملها". كانت مادة الفيلم شديدة الاشتعال، وحاول المشغل، واسمه قَيّا، إطفاءه، لكن اللهب حرق وجهه ويديه. يصف رشيد، الذي عمل لاحقًا في صيانة المحركات: "كان لهبًا قويًا لدرجة أنه لو غُمر في الماء لا ينطفئ". ما زال يتذكر تفاصيل الحادثة كما لو أنها تحدث الآن أمام عينيه، عندما تدافع الأطفال نحو الأبواب المغلقة، وسط الفوضى والزحام، "تكدسنا فوق بعضنا محاولين النجاة".

ويضيف: "حاولت التسلل نحو الباب، لكنهم كانوا متكدسين فوق بعضهم كالأسماك. رميت نفسي بينهم، وكنت أطول منهم قليلاً، لذلك احترقت ساقي بعد أن وصلت النيران إلينا". في الخارج، كانت المدينة كلها تصرخ: "أبناؤكم احترقوا. السينما احترقت!" ارتفعت أصوات الأمهات في الأزقة الضيقة، ينادين بأسماء فلذات أكبادهن في العتمة، وكل بيت في عامودا فقد شيئًا من قلبه تلك الليلة". يتنفس رشيد ببطء وهو يستعيد تلك اللحظة كما لو أنه يستحضر أشخاصًا يعرفهم بين صور وأسماء الضحايا المعلقة على الجدار الخلفي للنصب التذكاري الذي يرمز للعلاقة بين الحريق وثورة الجزائر، ويقال إن الجزائريين أرسلوه.

وسط الفوضى، ظهر محمد سعيد آغا، رجل كان يجلس في المقهى حين سمع الخبر، وركض إلى السينما، فصاح به أحدهم: "لا تدخل يا آغا! ابنك فهد بخير، نجا!"، لكنه رد وهو يندفع نحو النار: "كل هؤلاء أبنائي!". يشير العم رشيد إلى صورة جدارية في ساحة الحديقة التذكارية شيدت لتخليد بطولة سعيد آغا في إنقاذ الأطفال: "كان يدخل عبر الباب الشمالي ويخرج الأطفال على دفعات، حتى سقطت عليه جمرة كبيرة ومات وهو ينقذهم".

على الجانب الآخر، لا ينكر العم رشيد دور الشابين محمد جعفو ومحمد محسن حسو، وهما يسحبان الأطفال عند الباب الجنوبي: "كثيرون نجوا بفضلهم أيضًا لكنهم لم يدخلوا لعمق النيران كما فعل المرحوم سعيد آغا". بفضل هؤلاء وما أتوا للمساعدة لاحقًا من سكان المدينة وعوائل الأطفال أخرج رشيد الذي كان يبلغ حينها اثني عشرة عامًا وألقي به في الخارج، يقول عن تلك اللحظة: "حينها بدأت أتنفس بعدما كدت أختنق". وصلت أولى المساعدات في اليوم التالي، بسيارة مدير الناحية، لنقل الجرحى إلى المستشفى الوطني في القامشلي، لأنه لم تكن هناك سيارات إسعاف في المدينة، وقدمت تعويضات مالية لعوائل الضحايا لكنها لم تشفِ القلوب، ولم تُعِد الأطفال.

مع الصباح، كانت رائحة الحريق تغطي المدينة، ونُقلت الجثث إلى الجامع، يقول: "رأيت هناك ما أعجز عن وصفه". ويضيف بصوت متهدج: "جثث صغيرة، محروقة بالكامل أشبه بالجمال المشوية". لم يتعرف سكان المدينة من بينهم رشيد على هوية كل الجثث لأن بعضها تحولت إلى أجزاء وبقايا عظام: "جمعوا ما تبقى من عظامهم في أكياس ودفنوها في مقبرة جماعية عند تلة شرمولا".

في دقائق، اختفى جيل كامل في عرض خيري لم يكتمل، يضيف رشيد بالقول: "لو كانوا أحياء لكانوا الآن أطباء ومهندسين يخدمون مدينتهم ولكن للأسف لقد تدمر جيل كامل". تعكس طريقة وقوفه أمام صورهم وأسمائهم الوقار والاحترام، ناظرًا نحو الصور المعلقة أمامه بعينين يغلب عليهما التأمل والحزن، وقد شبك يديه خلف ظهره، ممسكًا بمسبحة، في إيماءة توحي بالصبر والسكينة. خمسة وستون عامًا مرت، لكن النار لا تزال مشتعلة في ذاكرته، يصف المشهد وكأنه يراه الآن: "أتذكر كل شيء وكأنه يحدث الآن عند ناظري ومسمعي كفيلم سينمائي يدور في رأسي". لا تزال المدينة تحمل في وجدانها ندبة لا تلتئم، كل بيت فيها فقد طفلاً أو قريبًا. الناجون باتوا قلائل، يجتمعون كل عام، مع عوائل الضحايا في الحديقة تخليدًا لذكراهم، ثم يعودون إلى حياتهم التي لم تعد كما كانت: "نحاول أن نعيش"، يقول رشيد.

لا يتفق العم رشيد مع الفكرة التي تشير بافتعال الحادثة من قبل السلطات: "كان بين الضحايا أبناء مسؤولين وضباط منهم ابن رئيس المخفر وابن قائد فصيل، لو كانت مدبرة، هل كانوا سيحرقون أبناءهم؟" يتساءل رشيد. من وجهة نظره وحسب تجربته بكونه تلميذ ناجٍ من الحريق، هناك سببان أساسيان للحادثة أولهما أن السلطات حينئذٍ أعطت الترخيص لتحويل بناء سيء للغاية إلى قاعة سينما والآخر هو المادة شديدة الاشتعال المستخدمة في الفلم.

في فناء الحديقة تقف شجرة منحنية بجذع مائل نحو الأرض. يشير إليها العم رشيد ويقول: "انحنت من تلقاء نفسها إجلالاً لأرواح الأطفال وتقدم لهم الشكر". على الأرض شعلة نار مصنوعة من الحجر كسر أجزاء منها، يقول رشيد: "ذات مرة رأيت أحد الزوار يقف على الشعلة ليلتقط صورة". يروي ذلك بأسى وكأن أحدًا كان واقفًا على قلبه.

كانت آثار الإهمال واضحة على اللوحات الممزقة، والطلاء المتآكل، وتبدو الصور باهتة، والأسماء ممزقة، يقول رشيد غاضبًا وهو يتجادل مع حارس المكان: "كيف تسمحون للأطفال والزوار بالعبث هنا؟ لم تفعل الحكومات السورية الكثير لتوثيق الحادثة، ولم تفتح تحقيقات جدية لإنصاف الضحايا ولم تُؤسَّس ذاكرة مؤسساتية تحفظ الحدث كما يجب لتبقى القصة ذاكرة شفوية تُروى على لسان الناجين الذين باتوا قائل.

تحرير: معاذ الحمد

مشاركة المقال: