أصدر مصرف سوريا المركزي مؤخرًا قرارًا بإنشاء "دائرة التميز في المالية الإسلامية"، تتبع مباشرة لمديرية مكتب حاكم مصرف سوريا المركزي. وكلف الحاكم، عبد القادر الحصرية، نائبه الأول، مخلص الناظر، بالتنسيق مع محمد حريدين (الذي لم يتم الكشف عن هويته بوضوح)، لاتخاذ الإجراءات التنفيذية اللازمة لإنشاء الدائرة، بما في ذلك اقتراح تشكيل لجان فنية وقانونية لوضع الأطر التنظيمية والتشريعية.
عنب بلدي استفسرت من حاكم مصرف سوريا المركزي عن الصفة الحكومية أو المصرفية لمحمد حريدين، المكلف باتخاذ الإجراءات التنفيذية، لكنها لم تتلق ردًا حتى وقت إعداد هذا التقرير. على الرغم من الغموض المحيط بهوية حريدين، يمنح القرار التمويل الإسلامي إطارًا رسميًا ومؤسسيًا رفيع المستوى، مما يثير تساؤلات حول جدواه وتأثيره المستقبلي على الاقتصاد السوري، خاصة في ظل التحديات الراهنة وإمكانية تحول الدائرة إلى مركز إقليمي للتمويل الإسلامي.
أدوات مالية إسلامية في "المركزي"
يرى الدكتور ياسر المشعل، الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة "دمشق"، أن "إدراج المالية الإسلامية ضمن الهيكل التنظيمي للبنك المركزي يعتبر إيجابية كبرى".
وفي حديثه لعنب بلدي، لخص المشعل إيجابيات تعزيز التمويل الإسلامي في النقاط التالية:
- اعتراف رسمي ودعم حكومي: ترفع الدائرة الجديدة مكانة التمويل الإسلامي من مجرد نشاط للمصارف الخاصة إلى مكون أساسي في السياسة النقدية للدولة، مما يسهل إصدار التشريعات والمعايير الموحدة، ويمنح القطاع قوة تنظيمية ومصداقية أكبر.
- حل أزمة السيولة: من أهم أدوار الدائرة المتوقعة هو ابتكار أدوات مالية متوافقة مع الشريعة (مثل الصكوك الحكومية) لإدارة فائض السيولة لدى المصارف الإسلامية، وهي مشكلة عالمية تواجه هذا القطاع.
- تعزيز الاستقرار المالي: التمويل الإسلامي القائم على المشاركة في الربح والخسارة يقلل من المخاطر النظامية مقارنة بالتمويل التقليدي القائم على الديون، مما يعزز مرونة النظام المالي الكلي.
الخبرة وفهم الشريعة
بالمقابل، يرى الأكاديمي المختص بالاقتصاد المالي والنقدي ياسر المشعل أن هناك سلبيات وتحديات تعترض جدوى وتأثير التمويل المصرفي الإسلامي على الاقتصاد السوري، وتتمثل في:
- نقص الكفاءات المتخصصة: يواجه القطاع تحديًا كبيرًا في توفير كوادر تجمع بين الخبرة المصرفية والفهم العميق للشريعة، مما قد يؤثر على جودة القرارات التنظيمية للدائرة.
- خطر البيروقراطية: قد تؤدي الهيكلة الحكومية في قطاع التمويل الإسلامي إلى إبطاء عملية الابتكار والتطوير المطلوبة في قطاع مالي يتسم بالديناميكية والتطور السريع.
ويواجه الطموح المعلن بتحويل سوريا إلى مركز إقليمي للتمويل الإسلامي واقعًا صعبًا، ولهذا الجانب أيضًا عدد من المحاسن والمساوئ، وفقًا لما أشار إليه المشعل. ومن المحاسن حول الآثار الإقليمية والمحلية:
- توفير بيئة تشريعية جاذبة للاستثمارات الخليجية المهتمة بالتمويل الإسلامي، وفتح قناة تمويلية جديدة لإعادة الإعمار.
- التأثير المحلي، حيث ستكون الدائرة الإسلامية محفزًا لتطوير منتجات المصارف الإسلامية المحلية، وتشجيعها على التحول من صيغ الديون (المرابحة) إلى صيغ المشاركة الأكثر عمقًا.
أما المساوئ فيمكن أن تتمثل بـ:
- المنافسة الشرسة من مراكز مالية راسخة عالميًا وإقليميًا (دبي، الرياض، كوالالمبور) التي تتمتع ببنية تحتية متقدمة.
- قد تفرض الدائرة معايير شرعية صارمة لا تتناسب مع الواقع الاقتصادي السوري، مما يحد من مرونة المصارف وقدرتها على المنافسة.
وخلص المشعل إلى أن التحول إلى مركز إقليمي للتمويل الإسلامي لن يتم بين ليلة وضحاها، ولكنه يبدأ بوضع الأسس التنظيمية المتينة التي يمكن للدائرة الجديدة أن تسهم فيها.
أهداف "دائرة التميز"
بحسب قرار "المركزي"، تسعى الدائرة إلى جعل سوريا مركزًا إقليميًا للبحث والابتكار في مجال المالية الإسلامية، من خلال:
- تطوير أدوات نقدية وإدارة سيولة متوافقة مع الشريعة.
- تقديم استشارات فنية للجهات الحكومية حول دمج الأدوات الإسلامية في الخطط التنموية.
- تصميم صكوك تمويل للبنية التحتية والإسكان.
- تنظيم مؤتمرات وورشات عمل لتعزيز المعرفة وبناء القدرات.
كما ستعمل الدائرة على تعزيز التعاون مع مؤسسات دولية مثل البنك الإسلامي للتنمية ومعهد البحوث والتدريب الإسلامي، وإطلاق برامج تدريبية وشهادات مهنية للعاملين في القطاع المالي. وحول هذه الأهداف يعتبر الأكاديمي في الاقتصاد ياسر المشعل، أن التمويل الإسلامي يعد شريكًا مثاليًا للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، خاصة في مرحلة التعافي الاقتصادي.
أفضل للمشاريع الصغيرة
يكمن الفرق الجوهري في فلسفة التمويل، بحسب المشعل، بأن التمويل التقليدي يقوم على علاقة دائن ومدين، حيث يضمن البنك استرداد أصل القرض والفائدة بغض النظر عن نجاح المشروع، وهذا يضع عبئًا كبيرًا على المشاريع الناشئة. أما التمويل الإسلامي (صيغ المشاركة) فهو يقوم على مبدأ تقاسم المخاطر، حيث يشارك الممول (البنك) المستثمر (صاحب المشروع) في الربح والخسارة، وهذا يركز على جدوى المشروع وقدرته على تحقيق أرباح حقيقية، بدلًا من التركيز على الضمانات فقط، مما يفتح الباب أمام المشاريع التي تفتقر إلى الأصول الكافية.
تحديات الإدماج والإصلاح التشريعي
لنجاح الدائرة في مهمتها، يجب تجاوز تحديات هيكلية عميقة، قال المشعل، وهي:
- الإطار القانوني للصكوك: لا يمكن للقطاع أن ينمو دون قوانين خاصة تسمح بإصدار الصكوك الإسلامية كأداة تمويل سيادية لتمويل مشاريع البنية التحتية وإعادة الإعمار.
- البيئة الضريبية: يجب تكييف القوانين الضريبية لتجنب الازدواج الضريبي على المعاملات الإسلامية (التي تتضمن بيعًا وشراء للأصول)، مما يزيد من تكلفتها مقارنة بالقروض التقليدية.
- نظام التسوية: يجب تطوير نظام تسوية مالي يتوافق مع متطلبات نقل ملكية الأصول في العقود الإسلامية، لضمان سرعة وكفاءة العمليات.
خطة تنفيذ على أربع مراحل
تتوزع خطة التنفيذ، وفقًا لقرار "المركزي"، على أربع مراحل تمتد حتى ما بعد عامين من التأسيس، تبدأ بتشكيل الهيكل الإداري والمجلس الاستشاري، مرورًا بإطلاق الدراسات الأولية، وانتهاء بتوسيع نطاق التعاون الإقليمي. ومن النتائج المرجوة:
- تطوير أدوات مالية إسلامية جديدة.
- توسيع نطاق التمويل الإسلامي للمشاريع التنموية.
- جذب استثمارات محلية وأجنبية عبر قنوات متوافقة مع الشريعة.
- تعزيز الشمول المالي للفئات محدودة الدخل.
وبحسب القرار، ستعمل الدائرة تحت إشراف مباشر من حاكم مصرف سوريا المركزي، وبدعم من مجلس استشاري يضم خبراء في الاقتصاد الإسلامي وممثلين عن المصرف والقطاع الأكاديمي. ويُنتظر أن ترفع الدائرة تقارير سنوية إلى الحاكم، والمجلس الاستشاري لتقييم الأداء وتحديد التوجهات المستقبلية، وفق مؤشرات تشمل عدد الدراسات الصادرة، وحجم التمويل الإسلامي الموجه، وعدد المستفيدين من البرامج التدريبية.
المجلس الاستشاري والحوكمة
يعتبر الأكاديمي الاقتصادي السوري المشعل، أن وجود مجلس استشاري يضم خبراء من القطاع الأكاديمي والمصرفي، شرط لازم لضمان جودة القرارات في دائرة التميز بالمالية الإسلامية، لكنه ليس كافيًا وحده لضمان الحوكمة الرشيدة. ويضمن المجلس أن تكون القرارات التنظيمية قائمة على أسس شرعية متينة (الأكاديميون) وقابلة للتطبيق العملي (المصرفيون)، مما يعزز المصداقية والشفافية، يبيّن المشعل، وتتطلب الحوكمة الرشيدة آليات أوسع، مثل أنظمة رقابة داخلية قوية، وآليات مساءلة واضحة، وفصل بين السلطات، وتطبيق المعايير الدولية. ويختتم الدكتور المشعل بأن إنشاء دائرة التميز في المالية الإسلامية هو خطوة إيجابية ومؤسسية بالغة الأهمية، تضع القطاع على المسار الصحيح، ولكن نجاح هذه المبادرة في تحقيق أهدافها الطموحة، سواء في تطوير القطاع المحلي أو جذب الاستثمارات الأجنبية، سيعتمد بشكل حاسم على قدرة الدائرة على تجاوز التحديات الهيكلية والتشريعية، وتوفير الكوادر المؤهلة، وتحويل الطموح إلى خطط عمل قابلة للتنفيذ.