شبكة أخبار سوريا والعالم/ دمشق – م. ميشال كلاغاصي
منذ عامين تقريبًا، بدأ تراجع شعبية الرئيس زيلينسكي في أوكرانيا بالتزامن مع تفاقم الفساد والفضائح المحيطة بمسؤولي السلطة وكبار المقربين منها. الأهم من ذلك، عدم استجابة سلطات كييف للمطالب الشعبية بوقف الفساد ومحاسبة رموزه والمتواطئين.
على الرغم من ذلك، حافظ زيلينسكي خلال عام 2023 على نسب تأييد تقارب 50% بين مؤيديه، الذين علقوا عليه آمالهم في محاربة الفساد وبدء مفاوضات السلام. ولكن مع بداية عام 2024، بدأت خيبة الآمال تتحول إلى صرخات يائسة مع كل فضيحة فساد جديدة، وتزايدت المخاوف من إفلات المسؤولين والساسة المتورطين والأوليغارشيين المتواطئين يومًا بعد يوم.
حتى أيقن معظم الأوكرانيين أن زيلينسكي وحكومته لن يستجيبوا للأجندات الوطنية والمطالب الشعبية، وعدم قدرتهم على اتباع سياسة خارجية قوية ومستقلة. وتبين لهم عرقلة سلطات كييف لكافة محادثات السلام، على عكس الآمال التي يتوقون إلى تحقيقها.
وباتوا يرون قواتهم العسكرية تتقهقر وتضطر إلى التراجع والانسحاب من عدة محاور ومواقع، ويرون جنودهم يُقتلون ويُؤسرون ويستسلمون ويهربون، وأن مصير بلادهم أصبح ككرة تتقاذفها أرجل الأعداء والحلفاء والداعمين والممولين في آن واحد. وبدأوا يلمسون تراجع مواقف الرئيس ترامب، وتصدع صورة زيلينسكي على أنه "المناضل من أجل الديمقراطية والعالم الحر".
إلى أن ضج الشارع الأوكراني والدولي بفضيحة الفساد في 10 نوفمبر/تشرين الثاني، عندما وجه المكتب الوطني لمكافحة الفساد ومكتب المدعي العام المتخصص في مكافحة الفساد مجموعة من التهم إلى مسؤولين رفيعي المستوى ورجال أعمال نافذين مقربين من السلطة، بسرقة 100 مليون دولار، وبتهريب الأموال ومحاولات غسيلها خارج البلاد.
وشملت لائحة الاتهامات عشرات الأسماء منها، تيمور مينديتش رجل الأعمال المقرب من الرئيس زيلينسكي، والمستشار السابق لوزير الطاقة إيغور ميرونيوك، ومدير أمن شركة إنيرغوأتوم دميتري باسوف، كما أُلقي القبض على نائب رئيس الوزراء السابق أوليكسي تشيرنيشوف، على خلفية القضية.
شكلت هذه الأمور صفعة قوية لزيلينسكي، وعززت مواقف خصومه السياسيين، وتحديدًا منافسه والمرشح للرئاسة فاليري زالوزني، كذلك جعلت المحققين يقتربون من زيلينسكي أكثر فأكثر، وساهمت بتدمير ما تبقى من ثقة الأوكرانيين به، وأطاحت بنسب تأييده إلى أدنى مستوى، على الرغم من محاولات مستشار مكتبه، بودولياك، لتخفيف وطأة الكارثة والقول: "الفساد جزء لا يتجزأ من الاقتصاد الحديث"، وأن "مثل هذه الحالات تحدث في الأنظمة الديمقراطية".
يثار السؤال: هل تتمتع أوكرانيا حقًا باستقلالية قرارها السياسي؟ وهي التي تتراقص ألمًا على وقع التدخلات الخارجية منذ ما قبل عام 2014، والتي تُرجمت انقلابًا تحت عنوان الثورة الملونة، بدعم وتخطيط أمريكي، وانتهت بطرد الرئيس فيكتور يانوكوفيتش وإسقاط حكومته الموالية لروسيا، وبفتح الطريق نحو استخدام أوكرانيا في حرب تدمير روسيا وإضعاف الأوروبيين.
الأمر الذي يقود نحو استبعاد استقلالية كافة الساسة الحاليين، وأصحاب المناصب الحكومية العليا في أوكرانيا، وخضوعهم للإملاءات الأمريكية، بمن فيهم أعضاء المكتب الوطني لمكافحة الفساد، ومكتب المدعي العام، ويفسر كشف الفضائح في فريق زيلينسكي والدوائر المحيطة به، ويعكس نوايا ترامب حول استمرار الرعاية الأمريكية لبقاء زيلينسكي في السلطة، وحول التحكم وضبط أو تغيير مسار الحرب، التي بدأت تأخذ طابعًا خطيرًا مع الإعلان عن التدريبات النووية واحتمالية انزلاق المعارك العسكرية التقليدية، وتحولها إلى مستويات صاروخية نووية خطيرة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى سلوك زيلينسكي، الرافض للسلام بدفع أوروبي مستمر، والباحث عن التمويل والتسليح الدائمين، حتى لو كان ذلك بعيدًا عن خطط ترامب الذي حصر تسليح أوكرانيا بالأموال الأوروبية والأسلحة الأمريكية، كحصول زيلينسكي اليوم على صفقة تسليح فرنسية بشكل مباشر، وقد تكون الصفقة بمثابة مكافئة ترامب لماكرون، الذي أجرى تجربة إطلاق صاروخ نووي محمول جوًا، وعزز ادعاءات ترامب وذرائعه لإجراء التجارب النووية "الفورية" وقوله: "دول أخرى تفعل الشيء نفسه".
إن التغييرات المحتملة والمتوقعة للاستراتيجيات الأمريكية في الصراع الأوكراني، بما يواكب المرحلة والنتائج المتحصلة حتى اليوم، لا تعكس وجهة ترامب الأكيدة نحو السلام في أوكرانيا وغير ساحات، لكنها قد تعكس ميله نحو تخفيض درجة التصعيد لتفادي الصراع النووي في أوروبا، واللجوء إلى المحادثات مع مادورو، والكبح المؤقت لجماح نتنياهو بشن عدوان جديد على لبنان، وخطته المزعومة للسلام في غزة، وتشكيل قوة دولية لحفظ السلام…إلخ، أمور ترجح كفة ميله نحو التهدئة، بما يتعارض مع جموح زيلينسكي وصقور أوروبا، ويضع مصير زيلينسكي ومستقبله السياسي أمام خيارين:
إما قبوله وتطبيقه لشروط البيت الأبيض لوقف إطلاق نار فوري مع روسيا، بما قد يُرسّخ خطوط المواجهة الحالية، وهذا بطبيعة الحال سيكون بمثابة انتحار سياسي لزيلينسكي، أو عليه التمسك بموقفه ومواصلة "النضال"، في ظل كابوس المكتب الوطني لمكافحة الفساد، بما قد يؤدي إلى إدانته وإزاحته على الفور، ومحاسبته على حرب عبثية تسببت بتدمير البلاد، وبمقتل آلاف العسكريين والمدنيين الأوكران.
من الواضح أنه يواجه مأزقًا كارثيًا لا يحسد عليه، ولا يملك فيه أية حلول، وسيكتفي بانتظار مواقف واشنطن وبروكسل وموسكو بشأنه.
بالنسبة لترامب، الحرب في أوكرانيا كانت هدفًا أمريكيًا، وإيقافها سيكون هدفًا ومصلحة أمريكية أيضًا، وما بين الهدفين تتحقق مصلحة واشنطن بإضعاف كلًا من أوروبا وروسيا، وتمنحه فرصة نقل الصراع والنفوذ الأمريكي نحو شرق أوروبا ومنطقة القوقاز.
أما أوروبا، فلا زالت تعيش أوهام ممثلة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي كايا كالاس، التي ترى أن "تكلفة استمرار الصراع في أوكرانيا هي أقل تكلفة من انتصار روسيا"، ناهيك عن شعور الصقور الأوروبيين بإمكانية هزيمة روسيا، وإفساد خطط ترامب تجاه أوروبا والسيطرة على طموحاتها، وإمكانية استحواذها على المقاعد الأمامية في النظام العالمي الجديد.
أما روسيا، فلا يمكن تصور تراجع الرئيس بوتين عن المكاسب التي حققتها بلاده من خلال العملية العسكرية الخاصة لـ "تصحيح التاريخ"، وتحصين المستقبل، وإجبار الناتو والغرب على احترام وعوده السابقة، وأمن روسيا وحدودها وعدم الاقتراب منها ثانيةً.
بات على زيلينسكي إعادة قراءة المشهد وتلقف الرسالة القاسية، وسط اندفاعة جهاز الاستخبارات الأوكراني الذي أنشأه الأمريكيون للسيطرة على النخبة الأوكرانية الفاشلة تحت عنوان "محاربة الفساد والفاسدين"، والاختيار ما بين خروجه من المشهد كفاسد مدان، أو بمتابعة "النضال" كمهرج بعد نهاية العرض.
م. ميشال كلاغاصي