الثلاثاء, 25 نوفمبر 2025 12:07 AM

سرقة المتحف الوطني بدمشق: اعتداء على ذاكرة الأمة وتاريخها

سرقة المتحف الوطني بدمشق: اعتداء على ذاكرة الأمة وتاريخها

مالك صقور: تناقلت وكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي خبر السرقة التي وقعت في المتحف الوطني في دمشق قبل الأسبوع الماضي، وقد خلف هذا الخبر أثراً مؤلماً لدى الكثيرين، ليس فقط السوريين والعرب، بل أيضاً السياح الأجانب وعلماء الآثار الذين زاروا دمشق ويقدرون قيمة الآثار وأهميتها.

في الوقت الذي يدرك فيه الكثيرون قيمة الآثار وأهميتها، هناك أيضاً من لا يعرف ماذا تعني الآثار ولماذا يهتم العالم المتمدن الحضري بالآثار ويدفع أغلى الأثمان لشرائها واقتنائها وعرضها في متاحفه.

من البديهي القول إن الآثار هي الذاكرة الجمعية للشعوب والأمم. فكل نقش وكل تمثال، وكل قطعة فخار صغيرة أو كبيرة تحمل حكاية وقصة، تعرفنا من نحن وكيف عشنا، وكيف فكر وعمل أجدادنا وأجداد أجدادنا. وعندما تُسرق هذه الآثار، تُسرق ذاكرة الوطن وتُمحى. فالآثار هي التي تمنح الشعوب والأمم شرعيتها الحضارية وهويتها الثقافية.

الآثار هي الشاهد الفعلي الذي يثبت أن على هذه الأرض عاشت حضارات ساهمت في بناء الإنسانية. ولهذا فإن الآثار ثروة معرفية تتجاوز قيمة المادة، من الدولار حتى الذهب والماس، لأن قطعة أثرية واحدة قد تغيّر مفهوماً كاملاً لفترة تاريخية أو تقلب فرضيات علمية. ولهذا يعد العالمون والعارفون والسياسيون أن الآثار رمز سيادي، فمن يملك التاريخ يملك المستقبل. لذلك تتصارع الدول الكبرى (في الخفاء) على القطع الأثرية النادرة لأنها تمنحها قوة سياسية وثقافية وحضارية.

إن سرقة الآثار ليست سرقة ممتلكات وحسب، بل اعتداء على السيادة الوطنية القومية الثقافية. والآثار هي جسر بين الشعوب لأنها لغة ليست بحاجة إلى ترجمة. نعم، إن الآثار هي ذاكرة الأرض حين تتكلم؛ والكارثة حين تُباع. فالآثار ليست حجارة نائمة في المتاحف ولا تماثيل صامتة تحت غبار القرون، بل هي في الحقيقة كلمات ساطعة نُحتت ونُقشت على وجه الدهر والزمن والعصر، هي نبض حضارات مرت من هنا، وتركت الضوء في عتمة الظلام.

لكن الكارثة الكبرى تبدأ حين يُختزل كل هذا الجلال البهي في "سعرٍ كسلعة"!! الكارثة، حين يصبح التاريخ وزناً في ميزان، ويُقوّم بالدولار لا بقيمته الفعلية، عندها لا تبقى الآثار آثاراً، بل تتحول إلى "جثث حضارية" تُباع في أسواق الليل؛ وهنا تكمن الكارثة والمأساة حين تصبح آثار بلد ما أو وطن ما سلعة تعرض للبيع، ولو عُرضت هذه القطعة الأثرية المسروقة في أعظم المتاحف الأوروبية.

حين يحدث ذلك لأي حضارة سُرقت، لقد سُرقت ذاكرتها، أو تتحول هذه الذاكرة من ذاكرة جمعية إلى "بضاعة" تُباع وتُشترى. تتحول من شاهد عظيم إلى قطعة تُدفن في تابوت أو صندوق مغلق يُهرب في ظلام الليل عبر الحدود إلى مكان مجهول. فمن يعنيه أن تُعرض ألواح من أوغاريت أو تماثيل من تدمر في مزاد أوروبي؟!! إنه يعني ببساطة أن التاريخ صار مطروحاً للبيع ولمن يدفع أكثر.

أصحاب هذا التاريخ المسروق والمعروض في متاحف الغرب، يصبحون يتامى ومن دون هوية حضارية وثقافية. والسؤال الذي يطرح نفسه: اللصوص، لصوص ومحترفو لصوصية وهم من أبناء البلد؛ لكن من الذي يشتري هذه الكنوز التي لا تقدر بثمن؟! ولمن سيبيعها مرة أخرى؟ وأي متحف في الغرب سيتباهى بعرضها؟!!

سيداتي سادتي: إن المتحف الوطني في دمشق ليس مبنى من حجارة شامية دمشقية عتيقة فحسب؛ إنه خزان الوجدان السوري، هو حافظ الذاكرة الوطنية السورية. لذا، فإن الخبر الذي تردد مؤخراً عن تعرض المتحف الوطني لسرقة بعض كنوزه التي لا تقدر بثمن، لم يكن مجرد حدث أمني عابر، بل يعتبر جرح بليغ حضاري ثقافي أصاب السوريين والعرب وكل الذين يعرفون معنى الآثار وقيمتها وأهميتها. ولن يُشفى هذا الجرح إلا بعد محاسبة اللصوص، واستعادة هذه الكنوز الثمينة.. فهل سيرى أولي الأبصار.. وهل سيعتبر أولي الألباب؟!

(أخبار سوريا الوطن-1)

مشاركة المقال: