حادثة تدمر ومقتل أميركيين: إنذار استخباري يهدد استراتيجية "الانخراط الأدنى" الأميركية في سوريا


لا يمكن النظر إلى الحادثة الأمنية التي شهدتها منطقة تدمر، والتي أسفرت عن مقتل عنصرين أميركيين ومترجم، بوصفها مجرد واقعة معزولة أو حدث أمني طارئ يمكن احتواؤه بخطاب تقني أو إجراءات ظرفية. ففي سوريا ما بعد سقوط النظام، لم تعد الحوادث الأمنية تقع على هامش السياسة، بل أصبحت في صلبها، وتُقرأ ضمن سياق لعبة استخبارية مفتوحة تُدار على الأرض السورية بأدوات جديدة وقواعد اشتباك مختلفة عما كان سائدًا.
الروايات المتضاربة حول الجهة المنفذة للحادثة — سواء وُصفت كفعل نفذته شخصية متشددة داخل أحد تشكيلات “الأمن العام”، أو كعملية تحمل بصمة تنظيمية مرتبطة بـ“داعش” — ليست تفصيلاً ثانويًا. هذا الغموض ليس عارضاً، بل هو وظيفي، ويخدم أكثر من مسار استخباري في آن واحد. ففي المنهج الاستخباري، لا يُطرح السؤال فقط: من أطلق النار؟ بل: من يستفيد من ترك الإجابة معلّقة؟
منذ سقوط النظام، دخلت سوريا مرحلة سيولة أمنية وسياسية غير مسبوقة. تفككت البُنى السلطوية القديمة، لكن البدائل لم تكتمل، ما فتح فراغات متعددة استغلتها بقايا تنظيمات متطرفة، وفواعل محلية مسلحة بمرجعيات دينية أو أيديولوجية، إلى جانب أجهزة استخبارات إقليمية ودولية تعيد اختبار أدواتها. في هذا السياق، تكتسب تدمر حساسية مضاعفة، فهي ليست مجرد عقدة جغرافية بين البادية والوسط السوري فحسب، بل هي عقدة استخبارية بامتياز. أي حادث أمني فيها يتجاوز دلالته المحلية، ويوجه رسائل مباشرة إلى واشنطن، وشركائها المحليين، والقوى الإقليمية.
مقتل أميركيين في هذا التوقيت يضع الوجود الأميركي أمام مفترق طرق. فالولايات المتحدة، التي سعت مؤخراً إلى إدارة حضور منخفض الكلفة، قائم على الشراكات المحلية والانتشار المحدود، تجد نفسها أمام سؤال استراتيجي متجدد: هل ما زالت سياسة “الانخراط الأدنى” قابلة للاستمرار في بيئة تتكاثر فيها الفواعل المنفلتة وتتشابك فيها الولاءات؟
هنا يتقاطع الحدث مع العلاقة المعقدة بين واشنطن و“قسد”. فالشراكة التي بُنيت أساسًا على محاربة “داعش” تفقد تدريجيًا وضوحها السياسي مع تغيّر السياق السوري. ومع كل حادث أمني من هذا النوع، تتزايد داخل دوائر القرار الأميركي الأصوات المطالِبة بإعادة التقييم: هل الشركاء المحليون قادرون فعليًا على ضبط البيئات المحيطة؟ أم أن الاعتماد عليهم بات يحمّل واشنطن كلفة أمنية وسياسية متنامية؟
أما قاعدة التنف، فتعود إلى الواجهة ليس فقط كموقع عسكري، بل كرمز لاستراتيجية أميركية أوسع، تقوم على التحكم بالعُقد الجغرافية ومنع تشكّل توازنات إقليمية غير مرغوبة. أي تصعيد أمني في البادية يعيد طرح سؤال دور التنف: هل تبقى نقطة ردع ثابتة، أم تتحول تدريجيًا إلى عبء سياسي في مرحلة تميل فيها واشنطن إلى تقليص حضورها المباشر؟
لا يمكن فصل الحادثة عن محاولات إعادة إنتاج “فزاعة داعش” بصيغ مختلفة. فالتنظيم، سواء بوصفه كيانًا فعليًا أو أداة وظيفية، لا يزال حاضراً في الحسابات الاستخبارية. غير أن الخطر الأعمق لا يكمن في التنظيم بحد ذاته، بل في تديين السلاح خارج أي إطار وطني جامع. فعندما تتداخل المرجعيات الدينية مع الأجهزة الأمنية دون ضوابط مؤسسية واضحة، تتحول الدولة الناشئة إلى بنية هشّة قابلة للاختراق من الداخل، وتغدو الحوادث الفردية شرارات محتملة لصراعات أوسع.
تُبرز الحادثة الأخيرة البادية السورية كساحة مفتوحة لتوازن القوى الدولية والإقليمية. روسيا تسعى لتعزيز التنسيق مع الفواعل المحليين، بينما تحاول الولايات المتحدة عبر قاعدة التنف ضبط هذا الامتداد ومنع أي توازنات غير مرغوبة، معتمدة على الشراكة مع “قسد” وشركاء محليين آخرين. أما القوى الإقليمية، مثل إيران وتركيا، فتتابع عن كثب، مستغلة أي تصعيد لإعادة ترتيب نفوذها أو الضغط على اللاعبين الرئيسيين.
في المدى القريب والمتوسط، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات مرجّحة: تشديد أمني أميركي مؤقت؛ استثمار استخباري للحادثة لإعادة ترتيب خرائط النفوذ؛ واتساع هامش التدخل غير المباشر لقوى إقليمية. حادثة تدمر، كما يرى د. سلمان ريا، ليست نهاية فصل، بل بداية اختبار جديد: إما أن تُقرأ كإنذار مبكر لتصحيح المسار، أو تُستثمر كحلقة إضافية في لعبة الأمم والنفوذ على الأرض السورية.
سياسة سوريا
⚠️محذوفسياسة سوريا
سياسة سوريا
سياسة سوريا