صراع التراث والاستثمار: جدل في حمص حول مقترح تحويل قصر "مفيد الأمين" الأثري إلى مطعم تجاري


يُعد قصر “مفيد الأمين” في حمص رمزًا معماريًا وثقافيًا ذا قيمة استثنائية، حيث شُيّد في القرن السابع الهجري كدار للحكم على يد الأمير المملوكي شهاب الدين كُجُك، فوق أساسات مبنى أقدم يعود إلى العصر الروماني. يحتفظ القصر بعناصر معمارية نادرة، تشمل الإيوان المملوكي، والقباب والمقرنصات، والكتابات العربية، بالإضافة إلى واجهاته المبنية من البازلت الأسود الحمصي. وينسب كتاب “تاريخ حمص”، لمؤلفه الخوري عيسى أسعد، القصر لأهل القديس مار إليان الحمصي وعائلته، لوجود قبو داخله يعود للقرن الثالث الميلادي.
رغم الأضرار الجسيمة التي لحقت به خلال سنوات الثورة السورية، ظل القصر يحظى بوزنه التاريخي كأحد أهم الشواهد المعمارية المملوكية الباقية في المدينة. إلا أن هذا الثقل التاريخي اصطدم مؤخرًا بمقترح استثماري يهدف إلى إعادة توظيف المبنى وتحويله إلى مطعم تجاري، ما أثار موجة واسعة من الجدل في حمص.
انقسمت الآراء حول المقترح؛ فبينما يرى مؤيدون أن المشروع قد ينعش المنطقة تجاريًا ويوفر فرص عمل، يرفض آخرون الخطوة بشدة، معتبرين إياها “تشويهًا” لهوية المكان واعتداءً على تراثه. وحذر المختصون من مخاطر تحويل المبنى لوظيفة تتطلب تدخلات تشغيلية قد تمس بنيته الأصلية.
تعود جذور فكرة التوظيف إلى عام 2009، حين وافق مجلس الآثار التابع للمديرية العامة للآثار والمتاحف على تحويل القصر إلى مركز توثيقي لمدينة حمص (دار وثائق). لكن العمل توقف بعد بدء الثورة السورية، خاصة وأن القصر يقع في حي باب تدمر الذي شهد عمليات عسكرية وتضرر بقذائف المدفعية التي أطلقها النظام السوري السابق.
بعد سقوط النظام السوري في كانون الأول 2024، اتجهت وزارة الثقافة نحو استثمار المواقع الأثرية، وكان قصر “مفيد الأمين” ضمن الأماكن التي تنوي الوزارة استثمارها وتحويلها إلى مطعم تجاري، وفقًا لمصادر في الوزارة تحدثت إلى عنب بلدي. ورغم تأكيد المصادر للقرار، لم تنشر الوزارة نسخة رسمية منه.
أوضح مدير التخطيط في المديرية العامة للآثار والمتاحف، أيمن نابو، أن المشهد تبدل كليًا بعد الحرب، مما جعل القرارات القديمة موضع إعادة تقييم. وأشار نابو إلى أن أي مشروع وُقّع قبل 2011 يجب أن يخضع اليوم لمعايير جديدة تراعي واقع ما بعد الحرب، مؤكدًا أن فكرة الاستثمار في المباني التاريخية جديدة على سوريا وتُعتمد كأداة لدعم الاقتصاد وتمويل إعادة الإعمار.
وأكد نابو أن وزارة الثقافة أحالت ملف استثمار المباني التاريخية إلى المديرية العامة للآثار والمتاحف لدراسته داخل لجان متخصصة تقيّم مدى توافقه مع معايير الترميم وإعادة التوظيف. وشدد على أن مشروع تحويل القصر إلى مطعم لا يزال “قيد الدراسة” وبلا قرار نهائي، وأن الأولوية تبقى لضمان عدم خروج المبنى عن سياقه الثقافي التاريخي.
اعترض آثاريون ومهتمون بالتراث الثقافي على القرار، ووضع محتجون مجهولون لوحات احتجاجية على باب القصر. المعمارية والاختصاصية في ترميم وإدارة المواقع الأثرية، لمى عبود، أكدت لعنب بلدي أن القصر هو “ملك للمجتمع المحلي”، وأن تحويله إلى مطعم يشكّل “تشويهًا ما بعده تشويه”، مشبهة الأمر بـ “تحويل قصر فيرساي إلى مطعم”. وطالبت عبود بترميم المبنى وإعادة توظيفه بوظيفة ثقافية غير ربحية، وهو السبب الذي جرى من أجله استملاكه رسميًا منذ عام 1984.
من جانبه، اعتبر المهندس المعماري يونس رستناوي، مقترح تحويل القصر إلى مطعم “خيار عالي الخطورة”، مشيرًا إلى أن إعادة توظيف المباني التراثية يجب أن تُدار وفق معايير دقيقة تستند إلى مبادئ الحفاظ المعماري والمواثيق الدولية مثل معايير “المجلس الدولي للمعالم والمواقع” (ICOMOS)، وليس بمنطق استثماري بحت.
وشرح رستناوي أن وظيفة المطعم تتطلب تدخلات تشغيلية مكثفة (تمديدات، تهوية، أحمال تشغيل) قد تؤدي إلى فقدان أجزاء من النسيج التاريخي وتشويه العناصر الزخرفية الأصلية، مؤكدًا أن احتمال الضرر “أكبر بكثير من أي فائدة متصوَّرة”، وأن المشروع بصيغته الحالية “غير آمن هندسيًا وتراثيًا”.
أكد عضو مجلس الإدارة في “الجمعية التاريخية السورية”، محمد غازي حسين آغا، أن قصر “مفيد الأمين” لا يمكن التعامل معه كعقار قابل لإعادة التوظيف التجاري، بل يجب تخصيصه لوظائف ثقافية بحتة كمركز للوثائق أو متحف. وأوضح آغا أن الجمعية عقدت جلسة موسعة في 10 من كانون الأول الحالي، انتهت بإجماع الحاضرين على استنكار الخطوة واعتبارها انتهاكًا لقيمة المبنى، وأن الجمعية بصدد تقديم معروض رسمي للجهات المختصة للمطالبة بوقف المشروع.
وفيما يخص الموقف الرسمي، قال مصدر في مديرية الآثار والمتاحف لعنب بلدي، إن مستثمرًا قدم دراسة لترميم القصر، وهي متوافقة مع المعمول به في المديرية، لكن العقد لم يبرم بعد، والموافقة النهائية لم تُحدد. وأكد المصدر أن وزير الثقافة، محمد صالح، وافق على توجه استثمار المباني الأثرية، وأن كافة الأعمال ستكون بإشراف المديرية العامة للآثار والمتاحف في حال إبرام العقد. وأكد أيمن نابو مجددًا أن المشروع لا يزال قيد الدراسة في المديرية العامة للآثار والمتاحف.
فن وثقافة
فن وثقافة
فن وثقافة
فن وثقافة