القدود الحلبية: 4 سنوات على تسجيلها في اليونسكو.. حلب 'أم الطرب' وأحقيتها التاريخية


يقول أهلُ الطرب: “مَن سَمِعَ الغناءَ على حقيقتِه مات”، والموتُ هنا هو أجملُ أنواع الموتِ، لأنه الموتُ طرباً بالصوت النقيّ، وانتشاءً بالموسيقا التي تلامس الجينات، حيث يجعل الإيقاعُ الكوني مساماتِ الجسد تتفتّح، ويُفيّقُ منمنماتِ الأرواح لتتناغم وتتعاشق على إيقاعِ تنفّسِ الكون. ولعل هذا ما يحصلُ لمحبّي الطرب الحلبي؛ عُشاقُ صبري مدلّل أحد أشهر “شيوخ كار” النّغم الحلبي، و”محمد خيري” ملِكُ الموّال السبعاوي، وصباح فخري “صنّاجة العرب”، وكل عمالقة “القدود الحلبية” الذين أبهجوا الملايين.
إن القدود الحلبية ليست نوعاً موسيقياً دخيلاً على نسيجِ مدينةٍ شربت الغناءَ مع مائها، وزرعتهُ في الزوايا والتكايا والحنايا، بل هي ترجيحُ كفّة ميزانِ النّغم نحو أصالة مدينةٍ أبدعتْ من رحِمِ زمانها ومكانها لونَها التطريبيّ المميز، فصارت تُكنى بـ”حلبْ أمّ الطرب”. وقد أثّر هذا اللون في العديد من الملحنين مثل عبقري الموسيقا العربية بليغ حمدي حينَ جعلَ العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ يصدَحُ متأثراً بالفولكلور السوري الحلبيّ: “قدُّكَ الميّاس يا عمري/ أيقظَ الإحساس في صدري/ أنتَ أحلى الناس في نظري/ جلّ مَنْ سوّاك يا قمري”.
احتفاءً بالذكرى الرابعة لتسجيل القدود الحلبية على قائمة التراث الإنساني في اليونسكو يوم 17 ديسمبر عام 2021، تحدث الفنان صفوان العابد -وهو أحدُ عمالقة الطرب الحلبي المعاصرين- عن معنى وأهمية هذا التسجيل. يوضح العابد أن ميزة القد الحلبي أو الأغنية الحلبية تكمن في الكلمات واللحن المصوغين ببساطة وسلاسة ليتقبّلها المثقف والإنسان العادي في البيئة الحلبية. ويشير إلى أن أغلب القدود تأتي من طابع الأرض أو الماء العذب، وهي ليست حزينة إنما فرِحة تتغزل بالمرأة الحلبية أو بقلعتها أو بحاراتها القديمة، مستشهداً بأمثلة مثل: “أول عشرة محبوبي” و”سمرا الكحله بتلبقلك” و”هالأسمر اللون” و”قدك المياس يا عمري”.
ويؤكد صفوان العابد أن الاحتفاء بالقدود عالمياً يعني الاعتراف بأحقية حلب التاريخية بهذا النمط، ويُعدّ شهادة عالمية تجعل أهل الكار الغنائي يهتمون أكثر بدعم المطربين الذين يؤدون هذا اللون التراثي.
من جانبه، يشرح المايسترو نزيه أسعد معنى القدود لغوياً وموسيقياً، قائلاً إن الأغنية الحلبية معروف عنها أنها تُعدُّ على الخط الصوفي، وتحديداً “القدّ”، وهو لغةً: القِدّ أي المسار أو الخط الديني. ويعني القد موسيقياً تغيير الكلام الغزلي المنظوم على لحن معين إلى كلام آخر على اللحن نفسه. وحين نلتمس الكلمات الحزينة في القدود، فهي تأتي بمعاني الرحمة والتضرّع والخشوع لله، ما يفرض حالةَ الشجنِ والحزن نتيجة فكرة مخاطبة الإنسان لله عزّ وجلّ وطلب المغفرة والرحمة.
ويوضح أسعد أن هذا التحوّل في القد نفسه يعني أنه من غير المعقول أن تبقى الكلمات فرحةً بمصاحبة لحنٍ حزين، أو كلماتٌ فيها خشوعٌ وشجنٌ مع لحن فرح. وهكذا اتّسمت القدود بهذا الطابع في بعض الأحيان (مثل: “ويلاه من نار الهجران” و”وبقلبي حسرة ونضرة يا أم المحبوب”)، لكن ذلك ليس شرطاً ملازماً للأغنية الحلبية، إذ بقيت هناك أغانٍ غزلية بكلمات لها طابع سعيد مرِح مثل (“جاني حبيبي أبو الحلقة” باللهجة العامية الحلبية و”قدّك المياس يا عمري”)، ومعظمها يحمل طابعاً طربياً كجمل موسيقية شرقية.
لأجل حلب، “المدينة المبدعة” وولّادة العظماء، التي أهدتنا قدودَها مُعادلاً وجدانيّاً لقلعة حلب فجعلتنا ممسوسين عشقاً بها، نحتفي ونغنّي: “فوق إلنا خلّ”، و“عالروزنا”، و“يا مال الشام”، ونترك القلبَ يرقصُ فرحاً.
فن وثقافة
فن وثقافة
سياسة سوريا
رياضة