يواجه بعض الأفراد الذين يعانون من صعوبات في التعلم تحديًا يتطلب أساليب تعليمية مبتكرة ومختلفة عن الطرق التقليدية. في هذا السياق، يبرز منهج مونتيسوري كنموذج تعليمي ذي أهمية بالغة، وقد أثبت فعاليته في أجزاء واسعة من العالم، حيث تشير معظم الدراسات العلمية إلى نتائجه الإيجابية، كما يوضح الدكتور أكرم خولاني.
ما هو منهج مونتيسوري؟
مونتيسوري هو منهج تعليمي شامل ابتكرته الطبيبة الإيطالية ماريا مونتيسوري في أوائل القرن العشرين. يعتمد هذا المنهج على التعلم التطبيقي، والأنشطة الموجهة ذاتيًا، والاستكشاف ضمن بيئة تعليمية منظمة. يستخدم المنهج أنشطة عملية وأدوات حسية مصممة لتنمية المهارات البدنية والعقلية والاجتماعية والعاطفية بشكل متوازن. كما يشدد على احترام الفروق الفردية ومراعاة سرعة نمو كل طفل، بهدف بناء الثقة والاستقلالية لديه، وتأسيس حب التعلم مدى الحياة.
نبذة عن ماريا مونتيسوري
كانت ماريا مونتيسوري أول امرأة تحصل على شهادة الطب في إيطاليا. في بداية مسيرتها المهنية، واجهت تحديًا في العمل مع الأطفال ذوي الإعاقات العقلية. استعانت بأعمال مجموعة من المختصين، وأسست مدرسة خاصة لهؤلاء الأطفال وأدارتها بنفسها، مطبقة مبادئ سيغوان في تربية ذوي الإعاقات العقلية، وحققت نتائج لافتة. دفعها هذا النجاح إلى التوسع في البحث العلمي والميداني لدراسة نمو الطفل وأنسب الوسائل التعليمية له. توصلت إلى قناعة مفادها أن الإعاقة هي في الأساس مشكلة تربوية أكثر من كونها مشكلة طبية. بناءً على ذلك، أسست منهجًا تعليميًا متكاملًا حمل اسمها، يراعي نمو الطفل واحتياجاته في كل مرحلة عمرية.
المراحل العمرية في منهج مونتيسوري
يقسم منهج مونتيسوري الأطفال إلى أربع فئات عمرية، لكل منها خصائصها التنموية:
- المرحلة الأولى: من الولادة حتى عمر 6 سنوات
يُنظر إلى الطفل في هذه المرحلة كمستكشف ومتعلم من خلال الخبرة الحسية والملموسة، ويشارك في البناء النفسي الذاتي والاستقلال الوظيفي. وصفت مونتيسوري قدرة الطفل الصغير على استيعاب المحفزات الحسية لبيئته، بما في ذلك اكتسابه التلقائي للمعلومات من الحواس واللغة والثقافة، بمصطلح “العقل الممتص”، مشيرة إلى قدرته العالية على التعلم السريع. كما لاحظت أن الأطفال بين سن الثالثة والسادسة يمرون بحالة نفسية أطلقت عليها “التطبيع”، تنشأ من تكثيف النشاط الذي يخدم احتياجاتهم التنموية.
- المرحلة الثانية: من عمر 6 حتى 12 سنة
خلال هذه الفترة، لاحظت مونتيسوري تغيرات جسدية ونفسية واضحة لدى الأطفال. طوّرت بيئة صفية ودروسًا ومواد تعليمية تستجيب لهذه الخصائص. جسديًا، يبرز فقدان الأسنان اللبنية وطول الساقين والجذع في بداية المرحلة، يليه نمو منتظم. نفسيًا، يظهر الميل إلى العمل والتواصل الاجتماعي ضمن مجموعات، أو ما سمّته “غريزة القطيع”، إضافة إلى تطور قوى العقل والخيال. تنمويًا، رأت مونتيسوري أن المهمة الأساسية في هذه المرحلة هي تكوين الاستقلال الفكري، والحس الأخلاقي، والتنظيم الاجتماعي.
- المرحلة الثالثة: من عمر 12 حتى 18 سنة
تشمل هذه المرحلة فترة المراهقة، حيث أشارت مونتيسوري إلى التغيرات الجسدية المرتبطة بالبلوغ، إلى جانب التغيرات النفسية مثل عدم الاستقرار الانفعالي وصعوبات التركيز. لاحظت أيضًا تطور الميول الإبداعية لدى المراهقين، وشعورهم باستحقاق العدالة والكرامة الشخصية. استخدمت مصطلح “التثمين” لوصف سعي المراهقين إلى إيجاد قيمتهم من خلال المجتمع. ومن الناحية التنموية، اعتقدت مونتيسوري أن العمل الأساسي في هذه المرحلة يتمثل في بناء الذات البالغة داخل المجتمع.
- المرحلة الرابعة: من عمر 18 حتى 24 سنة
تصورت مونتيسوري أن الشباب الذين نشؤوا في بيئة تعليمية قائمة على منهجها خلال المراحل السابقة، يكونون أكثر استعدادًا لدراسة الثقافة والعلوم بعمق، وقادرين على الإسهام في المجتمع وقيادته. أكدت أهمية الاستقلال الاقتصادي من خلال العمل مقابل الأجر، واعتبرت أن وضع حد تعسفي لسنوات الدراسة الجامعية غير ضروري، إذ يمكن للإنسان أن يواصل تعلم الثقافة والمعرفة طوال حياته.
الأسس التي يرتكز عليها منهج مونتيسوري
يرتكز منهج مونتيسوري على مجموعة من المبادئ الأساسية، أبرزها:
- تشجيع الاستقلالية: من خلال قيام الأطفال بالأنشطة بأنفسهم لتعزيز ثقتهم بأنفسهم.
- احترام الطفل: بوصفه فردًا فريدًا يتعلم وفق سرعته الخاصة.
- التعلم من خلال اللعب: كجزء أساسي من العملية التعليمية.
- تنمية الحواس: تحفّز الأدوات التعليمية حواس الطفل المختلفة مثل البصر والسمع واللمس، مما يعزز قدراته الإدراكية ويزيد وعيه بالبيئة المحيطة.
بماذا يتميز منهج مونتيسوري عن التعليم التقليدي؟
يتميز منهج مونتيسوري بعدة جوانب مقارنة بالتعليم التقليدي:
- يعتمد على الاكتشاف والتفاعل العملي بدل التلقين.
- يراعي الفروق الفردية وسرعة التعلم المناسبة لكل طفل بدل التوحيد.
- يركز على بناء النظام الداخلي لدى الطفل وتوجيه السلوك بطرق إيجابية بدل الاعتماد على العقاب.
القواعد العملية لتطبيق منهج مونتيسوري
تشمل العناصر الأساسية لتطبيق المنهج ما يلي:
- فصول دراسية مختلطة الأعمار: الفصول التي تضم الأطفال بين 3 و6 سنوات هي الأكثر شيوعًا، إلى جانب فصول أخرى تشمل الفئات العمرية 0–3، و6–9، و9–12، و12–15، و15–18 سنة.
- حرية اختيار النشاط: يُمنح الطالب حرية اختيار النشاط ضمن مجموعة محددة من الأنشطة.
- فترات عمل طويلة: يعمل الأطفال في فترات طويلة دون انقطاع، ويُفضّل أن تصل إلى ثلاث ساعات متواصلة.
- بيئة تعليمية مجهزة: تتيح للأطفال الوصول السهل إلى الأنشطة والأدوات التعليمية المناسبة، التي تُعد عنصرًا أساسيًا في تطبيق مونتيسوري. تشمل هذه الأدوات:
- أدوات حركية: مثل المكعبات والأشكال الهندسية لتنمية التناسق بين اليد والعين.
- أدوات حسية: لتحفيز الحواس كالألوان والأنسجة المختلفة.
- أدوات معرفية: تساعد الطفل على تعلم الأرقام والحروف والمفاهيم الأساسية.
- التعلم التدريجي: يُقدَّم التعلم بشكل تدريجي من البسيط إلى المعقد.
- دور المعلم الموجه: معلم مدرّب يؤدي دور الموجّه، يراقب الأطفال ويقدّم الدعم عند الحاجة دون تدخل مباشر.
- الاستغناء عن المكافآت الخارجية: مثل الدرجات أو الملصقات، لتعزيز الدافعية الذاتية.
الأهداف التي يحققها تطبيق منهج مونتيسوري
يسهم تطبيق منهج مونتيسوري في تحقيق عدة أهداف، منها:
- تطوير الاستقلالية وبناء الثقة بالنفس.
- تعزيز المهارات الحركية، خاصة لدى الأطفال الذين يعانون من صعوبات في التنسيق الحركي.
- دعم التواصل الاجتماعي وتحفيز النمو العقلي من خلال أنشطة التفكير وحل المشكلات.
- مساعدة الأطفال على التفاعل المستقل مع البيئة المحيطة، مما يعزز شعورهم بالإنجاز والاعتماد على الذات.
كيف يمكن للأهل الاستفادة من مبادئ مونتيسوري في المنزل؟
لا يشترط تطبيق منهج مونتيسوري في المنزل توفر أدوات خاصة أو بيئة مدرسية متكاملة. يمكن للأهل الاستفادة من مبادئه الأساسية عبر خطوات بسيطة، مثل:
- إتاحة الفرصة للطفل للاعتماد على نفسه في الأنشطة اليومية المناسبة لعمره، كترتيب أغراضه أو المشاركة في إعداد الطعام.
- تنظيم البيئة المنزلية بحيث تكون الأدوات في متناول الطفل.
- تشجيعه على الاختيار دون إكراه، واحترام سرعته في التعلم دون مقارنته بالآخرين.
- الحد من التوجيه المباشر والمبالغة في المكافآت، مقابل تعزيز الدافعية الداخلية، وهي من أهم الممارسات التي تنسجم مع فلسفة مونتيسوري في التربية.