العملات المستقرة: تحدٍ غير مسبوق يهز أركان النظام المصرفي التقليدي


هذا الخبر بعنوان "لماذا تخاف البنوك من العملات المستقرة" نشر أولاً على موقع worldnews-sy وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٣ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
شهد النظام المالي العالمي تحولات جذرية عبر تاريخه الطويل، بدءًا من آلاف السنين حيث كانت معابد بابل القديمة تؤدي وظائف شبيهة بالبنوك، إذ كان الأفراد يودعون فيها ممتلكاتهم وغلالهم بحثًا عن الأمان والثقة. كانت هذه الودائع تُسجل على ألواح طينية، لتشكل بذلك أولى صور الإيصالات المالية. ومع التقدم الزمني، تطورت هذه المفاهيم بشكل ملحوظ في عصر النهضة، لا سيما في إيطاليا، حيث لعبت عائلة ميديتشي دورًا محوريًا في تأسيس شبكة مصرفية واسعة النطاق، مولت الملوك والحروب، مما رسخ مكانة البنوك كعنصر أساسي في بناء الدول والإمبراطوريات، متجاوزة مجرد كونها جهة لحفظ الأموال.
لعدة قرون، استمرت البنوك في الاضطلاع بدورها المحوري كوسيط أساسي يربط الأفراد بأموالهم، ويربطهم ببقية مكونات الاقتصاد. ارتكز هذا الدور على نموذج تقليدي وواضح: جمع الودائع، تقديم القروض، وتحقيق الأرباح من خلال الفروقات في أسعار الفائدة. بقي هذا النموذج مستقرًا وثابتًا حتى مطلع القرن الحادي والعشرين، حيث كانت البنوك تُنظر إليها كحارس موثوق لثروات الأفراد والدول على حد سواء.
لكن هذا الاستقرار تعرض لاهتزاز عنيف في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، التي كشفت عن نقاط ضعف جوهرية في النظام المالي التقليدي وأدت إلى تآكل الثقة في المؤسسات المصرفية. في ظل هذه الظروف، برز شخص مجهول الهوية يُعرف باسم ساتوشي ناكاموتو، مقدمًا رؤية لنظام مالي مبتكر لا يعتمد على البنوك أو أي وسطاء. يقوم هذا النظام على شبكة لامركزية تتيح للأفراد تبادل القيمة بشكل مباشر. من رحم هذه الرؤية، وُلدت عملة البيتكوين، وتلاها توسع تدريجي لعالم العملات الرقمية وتقنية البلوك تشين، لتشكل منظومة مالية موازية بدأت تفرض وجودها وتأثيرها على الساحة العالمية.
مع استمرار تطور هذا الفضاء الرقمي، ظهرت العملات المستقرة كحل فعال لإحدى أبرز التحديات التي تواجه العملات المشفرة، ألا وهي التقلبات السعرية الحادة. تعتمد العملات المستقرة على مبدأ الارتباط بقيمة ثابتة، وغالبًا ما يكون ذلك بالدولار الأمريكي، مما يحولها إلى أداة للتبادل وحفظ القيمة بدلًا من كونها أصلًا استثماريًا مضاربيًا. وقد تنوعت هذه العملات لتشمل أنواعًا مدعومة بأصول حقيقية مثل النقد وسندات الخزانة، وأخرى مضمونة بعملات رقمية أخرى، بالإضافة إلى نماذج خوارزمية أظهرت التجربة مخاطرها بعد انهيارات بارزة.
بمرور السنوات، تجاوز دور العملات المستقرة مجرد كونها أداة ضمن منصات تداول العملات الرقمية، لتكتسب حضورًا أوسع ضمن النظام المالي العالمي. تمثل التحول الأهم في إقرار تشريعات أمريكية حديثة منحت العملات المستقرة المدعومة بأصول حقيقية شرعية قانونية كاملة، وسمحت بدمجها ضمن الإطار المالي التقليدي. هذا التطور مكن من إنجاز التحويلات الدولية في غضون دقائق معدودة بدلًا من أيام، وخفض التكاليف بشكل كبير، وفتح آفاقًا جديدة لاستخدامها في تسوية المدفوعات بين الشركات، وحتى ربطها ببطاقات الدفع واستعمالها في المعاملات اليومية.
هذا الواقع المستجد وضع البنوك التقليدية أمام تحدٍ غير مسبوق. فالعملات المستقرة باتت توفر خدمات مالية تتسم بالسرعة والتكلفة المنخفضة والشفافية العالية، بينما لا تزال البنوك تعاني من أعباء تشغيلية ضخمة وقيود تنظيمية صارمة. والأخطر من ذلك، أن منصات العملات المستقرة أصبحت تستقطب الودائع بتقديم عوائد تفوق بكثير ما تقدمه حسابات التوفير البنكية، مما يهدد بتسرب جزء كبير من ودائع البنوك ويضعف قدرتها على الإقراض، الأمر الذي قد يؤثر سلبًا على النشاط الاقتصادي برمته.
إضافة إلى ما سبق، أحدثت العملات المستقرة وتقنيات التمويل اللامركزي (DeFi) تحولًا نوعيًا في قطاعي التحويلات الدولية والقروض. أصبح بالإمكان إرسال الأموال عبر الحدود بسرعة شبه فورية وبتكاليف زهيدة، في تناقض صارخ مع الرسوم المرتفعة والتعقيدات التي يفرضها النظام البنكي التقليدي. كما بات الحصول على القروض متاحًا من خلال عقود ذكية تُنفذ تلقائيًا دون الحاجة لوسطاء أو إجراءات بيروقراطية معقدة، بالاعتماد على الضمانات الرقمية وحدها.
في خضم هذه التحولات المتسارعة، لا يبدو أن البنوك ستختفي كليًا، ولكن دورها التقليدي يشهد تغييرًا جذريًا. فالبنوك التي تقاوم التغيير وتتمسك بنماذجها القديمة ستكون عرضة للتراجع، بينما سيكون المستقبل للمؤسسات التي تنجح في دمج النظام المالي التقليدي مع التقنيات اللامركزية، وتتبنى تقنية البلوك تشين والعملات المستقرة، وتعيد صياغة دورها بما يتلاءم مع عالم مالي جديد يتشكل بوتيرة غير مسبوقة.
بقلم: عبدالحميد القتلان - خبير اقتصادي
اقتصاد
اقتصاد
اقتصاد
اقتصاد